التقدم ومشكلاته: نحو نظرية عن النمو العلمي
– تأليف: لاري لودان
– الترجمة: فاطمة إسماعيل
الفكرة العامة للكتاب
يقدّم لاري لودان في هذا الكتاب واحداً من أكثر الأطروحات تأثيراً في فلسفة العلم خلال النصف الثاني من القرن العشرين، إذ يعيد تعريف مفهوم التقدم العلمي جذرياً، مبتعداً عن النماذج التقليدية التي طغت على فلسفة العلم، مثل القابلية للتكذيب عند بوبر، وبارادايم كون، وبرامج لاكاتوش البحثية. يرى لودان أن هذه المقاربات، رغم غناها، فشلت في تفسير الطريقة الفعلية التي ينمو بها العلم عبر التاريخ. وبديلاً عن ذلك، يقترح لودان نموذجاً “حلّ المشكلات” الذي يجعل من القدرة على التعامل مع المشكلات العلمية معياراً مركزياً للتقدم العلمي، بحيث لا يعود العلم مجرد تراكم للمعرفة أو انتقال بين أنساق نظرية، بل ممارسة واقعية تحاول حل أكبر قدر ممكن من المشكلات النظرية والتجريبية. ومن خلال هذا المدخل يعيد لودان التفكير في العقلانية العلمية، ويستدعي شواهد تاريخية ليبرهن أن نظريته أكثر التصاقاً بمسار العلم الفعلي.
المحاور الرئيسية
١. معنى التقدم العلمي ومحدودية الرؤى السابقة
يسعى لودان أولاً إلى تفكيك المسلمات التي تبناها فلاسفة العلم حول “التقدم”، فيبيّن أن تعريفات التقدم التي تعتمد على تراكم المعارف أو على معيار الحقيقة أو على نجاح النظريات في التنبؤ، لا تستوعب ما يحدث فعلاً في تاريخ العلوم. فالتاريخ مليء بنظريات كانت مثمرة لأنها حلّت مشكلات أساسية رغم أنها لم تكن “أقرب إلى الحقيقة” بالمفهوم التقليدي، كما توجد نظريات فشلت رغم قدرتها العالية على التنبؤ. لذلك يقرر لودان أن التقدم العلمي لا يُقاس بمدى قربنا من “الحقيقة النهائية”، بل بمدى قدرتنا على حل مشكلات واقعية تواجه المجتمع العلمي. وهذا التحول في زاوية الرؤية يسمح بتجاوز المأزق الذي وقعت فيه النماذج القديمة التي اختزلت التقدم في التحقق أو التبرير أو التكذيب.
٢. العلم باعتباره نشاطاً موجهاً نحو حل المشكلات
يبني لودان نموذجه على فرضية بسيطة لها آثار واسعة: العلم يهدف أساساً إلى حل المشكلات. ويعرّف المشكلة بأنها أي وضع معرفي لا يتوافق مع توقعاتنا أو مع إطارنا المفهومي. لكن ليست كل المشكلات ذات قيمة واحدة؛ فهناك مشكلات تجريبية ترتبط بالملاحظة، وأخرى نظرية ترتبط بالاتساق الداخلي أو العلاقة بين المفاهيم. ومن خلال هذا التصنيف يوضح لودان أن تقييم النظريات ينبغي أن يتم بناءً على نوع المشكلات التي تتعامل معها، وعدد المشكلات التي تتجاوزها، وقدرتها على الحد من الإشكالات الجديدة التي قد تنتج عن حلولها. ومن هذه الزاوية تصبح النظرية العلمية أداة وظيفية وليس مجرد بناء منطقي، ويصبح التقدم هو الانتقال من نظرية تحل عدداً قليلاً من المشكلات إلى أخرى تحل عدداً أكبر وأعمق.
٣. معايير أهمية المشكلات العلمية وأولوية حلها
لا يكتفي لودان بوصف العلم كعملية حلّ مشكلات، بل يتساءل عن معيار الأهمية نفسه. ويطرح فكرة أن أهمية المشكلة تتحدد من خلال تأثيرها على شبكة معتقداتنا العلمية وعلى تقييمنا العام للنظرية. فالمشكلات المركزية هي تلك التي تعيد تشكيل النسيج الكامل للمعرفة العلمية، بينما المشكلات الثانوية قد تؤدي إلى تعديلات سطحية. ويعرض لودان أمثلة تاريخية على ذلك، موضحاً كيف دفعت مشكلات مثل تفسير حركة عطارد أو الإشعاع الحراري إلى ثورات علمية لأنها كانت تمس البنية الأساسية للمفاهيم السائدة. ويبين أيضاً أن المجتمع العلمي يمتلك “تدرجاً” في تقييم المشكلات، وأن هذا التدرج ليس ثابتاً بل يتغير مع تطور العلم، مما يجعل التقدم عملية تاريخية متحركة وليست مساراً خطياً.
٤. العلاقة بين التقدم والعقلانية
يمنح لودان مكانة مركزية لقضية العقلانية باعتبارها شرطاً لإمكانية الحديث عن التقدم من الأساس. لكنه يرى أن العقلانية العلمية ليست مجرد اتباع قواعد منهجية ثابتة، ولا مجرد اختيار النظرية الأكثر برهنة، بل هي عملية تقيّم الأدوات المعرفية بناءً على قدرتها التفسيرية وعلى فعاليتها في حل المشكلات. ومن خلال هذا المنظور، تصبح العقلانية مبدأ موجهاً يضبط العلاقة بين الأهداف العلمية (وهي حل المشكلات) وبين الوسائل النظرية والتجريبية التي يعتمدها العلماء. وهكذا ينتصر لودان لمفهوم “العقلانية العملية” التي تستند إلى نجاحات العلم في التعامل مع مشكلاته، لا إلى قواعد قبلية مفروضة عليه.
٥. التاريخ باعتباره مختبراً لنظرية العلم
يستعين لودان بالتاريخ العلمي استخداماً مكثفاً ليبرهن أن نموذجه يعكس ما حدث فعلاً. فيستدعي حالات متعددة من الفيزياء والفلك والبيولوجيا والكيمياء، موضحاً كيف أن معيار حل المشكلات يوفر تفسيراً وافياً لتحولات كبرى مثل الانتقال من نيوتن إلى آينشتاين، أو من نظريات الفلوجستون إلى النظرية الكيميائية الحديثة. ويؤكد أن النظريات العلمية التي صمدت كانت أكثر قدرة على حل مشكلات مركزية، بينما تلك التي انهارت قد أخفقت في التعامل مع إشكالات جديدة ظهرت داخل ممارستها. وهكذا تصبح الوقائع التاريخية مرجعية أساسية لتأسيس فلسفة علم واقعية وغير تجريدية.
خلاصة ختامية
يضع لاري لودان في هذا الكتاب نموذجاً تحليلياً عميقاً يعيد تعريف جوهر التقدم العلمي من خلال التركيز على مفهوم حل المشكلات. وبذلك ينتقل النقاش من سؤال “كيف نعرف أن نظرية ما صحيحة؟” إلى سؤال “كيف نعرف أن هذه النظرية تفعل شيئاً أفضل من سابقتها؟”. ويمثل هذا التحول نقلة نوعية تجعل فهم العلم أكثر التصاقاً بمساره التاريخي وأكثر قدرة على تفسير تغيراته. يقدّم لودان نظرية متماسكة ترى أن العقلانية والتقدم عمليتان متداخلتان، وأن العلم ينمو عندما ينجح في تجاوز المشكلات لا حين يقترب من حقيقة مطلقة غير قابلة للتحديد.
المصدر. الباحث سالم يفوت


