للفرنسية: بينيديكت سير.كتاب: كيف تغيرت طبيعة الصداقة عبر القرون.-ترجمة السورية: سارة حبيب.
كيف تغيرت طبيعة الصداقة عبر القرون
للكاتبة والمؤرخة الفرنسية بينيديكت سير.
ترجمة:الاديبة والمترجمة السورية سارة حبيب
إن التحول الذي مرّ به هذا الرباط الخاص من العصور الإقطاعية إلى الأزمنة الحديثة يُظهر الكثيرَ عن تطلعات المجتمعات المختلفة
الصداقة قوة تتغلغل عميقًا في الروح البشرية. إنها تعزّز الثقة، التوازن العاطفي والدعم المتبادل. وهي تربط الأفراد وتشكّل الجماعات، في الأوقات العادية وفي أوقات الأزمات. في العصور الوسطى، كانت الصداقة أكثر من مجرد رباط خاص؛ كانت أداة اجتماعية، متداخلة مع المثل الأخلاقية العليا، الواجبات الدينية، والتسلسلات الهرمية السياسية. وقد أولى مفكرو القرون الوسطى اهتمامًا مستمرًا لمعناها وقيمتها، رابطين إياها غالبًا بالمثال الأعلى للمحبة المسيحية charity””(أعلى أشكال الحب في المسيحية). تظهر الصداقة أيضًا، كما سنرى، بوصفها خيطًا ذهبيًا ينسج العصور القديمة والمسيحية معًا، العقل والإيمان، الفرد والجسد الاجتماعي.
ورثت أوروبا المسيحية في العصور الوسطى من العصور القديمة تبجيلًا عميقًا لفضيلة الصداقة. والمفكرون في العصور الوسطى قرأوا شيشرون وسينيكا، ثم كيّفوا نماذج القدماء الأخلاقية لتنسجم مع كتاباتهم، تفاسيرهم للنصوص، وفلسفتهم. لكن نقطة التحول الحاسمة حدثت عام 1246 عندما تُرجمت أطروحة أرسطو الرئيسية حول الصداقة، الموجودة في الفصلين الثامن والتاسع من “الأخلاق النيقوماخية”، إلى اللاتينية وبدأت تنتشر على نطاق واسع. مع أرسطو، ورث عالم العصور الوسطى أطروحة قوية، منهجية وشاملة حول الصداقة.
الصداقة، كما يقول أرسطو، هي “أحد أكثر متطلبات الحياة ضرورة”: لنزدهر في هذه الحياة، يجب أن يكون لدينا أصدقاء رائعون. قدم أرسطو مجموعة من التعاريف الدقيقة إلى جانب طيف غني من الفروق الدقيقة. ووفقًا له، ثمة ثلاثة أشكال من الصداقة: المنفعة، المتعة، والفضيلة. الأولى هي علاقة بين شخصين مفيدين واحدهما للآخر – لنقل، شركاء في العمل أو زملاء- وبطبيعة الحال هذه الصداقات تدوم عادة. أما صداقات المتعة فهي تلك المبنية على سعي مشترك أو اهتمام مشترك، وهي تدوم طالما يتشارك الصديقان شغفهما. أخيرًا، صداقات الفضيلة تتضمن كلًا من المنفعة والمتعة، لكنها أكثر عمقًا: هؤلاء أصدقاء يحب واحدهم الآخر ويحترم واحدهم الآخر في جوهره الأكثر عمقًا ويُثري واحدهم حياة الآخر بتمكينه من الازدهار. “الصداقة المثالية هي صداقة البشر الذين هم أخيار، متشابهون في الفضيلة؛ لأن هؤلاء يتمنى واحدهم الخيرَ للآخر بوصفه خيّرًا، وهم أنفسهم أخيار على السواء”.
وضع أرسطو الصداقة ضمن إطار العلاقات الإنسانية الأوسع: بين الأب والابن، الزوج والزوجة، السيد والتابع، وغيرها. وهذه المقاربة الموسوعية شكّلت تأملات المؤلفين المسيحيين في العمق. لكن سؤالًا سرعان ما ظهر: كيف يمكن إذًا التوفيق بين هذه الفضيلة الإغريقية الفلسفية الوثنية والفضيلة المسيحية؟
يشكّل هذا السؤال أساسَ رحلة التلقي الكاملة التي مر بها كتاب “الأخلاق” في الغرب في العصور الوسطى. من منتصف القرن الثالث عشر إلى القرن الخامس عشر، تصارع اللاهوتيون اللاتينيون مع مفهوم أرسطو عن الصداقة، محاولين تكييفه ليلائم التصنيفات المسيحية – وعلى رأسها، فضيلة الكاريتاس caritas اللاهوتية. وإذ تتجاوز مجرد العاطفة أو عمل الخير، الكاريتاس “”caritas – التي تُترجم عادة إلى “المحبة charity” أو “المحبة الإلهية”- هي، في اللاهوت المدرسي، أسمى الفضائل اللاهوتية الثلاث، إلى جانب fides (الإيمان) و”spes” (الأمل، عادة بمعنى اتحادنا النهائي مع الله). الكاريتاس، التي هي مغروسة في البشر من الله لا مكتسبة بجهد الانسان، تربط الروح بالله وترتّب كل أنواع المحبة الأخرى وفقًا لذلك. وهي، المتجذرة في فكر أوغسطين والممنهجة على يد الأكويني، ليست حب الله أكثر من كل شيء آخر فحسب بل هي أيضًا حب الجار لأجل الله. هكذا، وفي حين أن الصداقة الأرسطية تقوم على أساس الفضيلة والاعتراف المتبادل بين الأنداد، الكاريتاس المسيحية تفترض مسبقًا وجود اللاتناظر، النعمة، ووجود أنثروبولوجيا مختلفة جذريًا. واللقاء بين هذين الإطارين – أحدهما أخلاقي، والآخر لاهوتي- أدى إلى نشوء توليفة معقدة، وأحيانًا غير مستقرة، في فكر العصور الوسطى.
“ظهر سؤال: كيف يمكن التوفيق بين هذه الفضيلة الإغريقية الفلسفية الوثنية والفضيلة المسيحية؟”
لهذا السبب، انخرط المفكرون من القرن الثالث عشر وحتى الخامس عشر، من ألبرت الكبير إلى يوهانس فيرسوريس، في استقصاء تأسيسي: ما هي الطبيعة الحقيقية لهذا الرباط الاجتماعي؟ هل هو ربط فلسفي، عقلاني، أخلاقي؛ أو حتى إنساني النزعة؟ أو هل هي فكرة لاهوتية مغروسة فينا غايتها القصوى الله بوصفه الأصل الحاكم لكل العلاقات البشرية؟
توما الأكويني، الدومينيكاني العظيم من القرن الثالث عشر، رفع الصداقة إلى منزلة الهابيتوس habitus””؛ أي شبه فضيلة: وحدهم الفاضلون قادرون على الصداقة الحقيقية. والمصطلح الذي وضعه لهذا النوع من الصداقة، “amor amicitiae”، يوضع في مقابل amor concupiscentiae”” أي حب الرغبة. بالنسبة إلى الأكويني، الصداقة في صورتها الصحيحة موجهة نحو مقابلها اللاهوتي: المحبة المسيحية charity أو dilectio (المحبة النقية في مقابل الإيروس الأكثر شهوانية). والسمة المحدِّدة للصداقة، مثل تلك التي تحدد المحبة المسيحية، هي الترتيب السليم للعاطفة. أن يحب المرء آخر من أجل ذلك الآخر، لا من أجل نفسه، هو شكل من تجاوز الذات: إنه يعني الاعتراف بالآخر بوصفه غاية في حد ذاته. فالصداقة الحقيقية تتسم بالتبادلية، حسن النية المتبادلة، المساواة التامة، الحميمية، التشابه، والغاية المشتركة. ومثلما أن الطبيعة تتوجه نحو النعمة، يرى الأكويني الصداقة بوصفها موجهة نحو المحبة المسيحية.
أصبح كتاب “الأخلاق” موضع تفصيل عقائدي، حيث حلّت الفضائل اللاهوتية – لا سيما “dilectio”- محلّ التصنيفات الفلسفية البحتة
في القرن الرابع عشر، اتخذ تلقيّ أرسطو منعطفًا أكثر عقلانية، لا سيما من خلال أعمال جان بوريدان، أستاذ في الفنون في جامعة باريس. مع بوريدان، فُصِلت الصداقة عن نظيرها اللاهوتي واستحقت شرعية عقلانية خاصة بها. هكذا، نشأ مذهب إنساني أخلاقي جديد كبديل حيوي للأخلاقية المسيحية. وهذا النموذج الأخلاقي أعاد إدراج الصداقة في صميم العلاقات الإنسانية والاجتماعية، بحيث أنه أمكن حتى للعبد أن يصبح صديق سيده-لأن كليهما بشر. في مذهب بوريدان الإنساني الأخلاقي، لم تعد الصداقة مقصورة على الحميمية الشخصية. بات الصديق هو أي إنسان خيّر وفاضل، مقدَّرٍ لأجل ذاته. وبات دعم المرء مستحقًا لمثل هذا الشخص بناء على فضيلة قيمته الأخلاقية وحدها، حتى في غياب المعرفة السابقة. وهذا في دوره يعكس فكرة صداقة عالمية ممتدة إلى كل البشر الأخيار. في نظام بوريدان، تتفكك ثنائية الصداقة- المحبة المسيحية: تتحرر الصداقة من قوقعتها اللاهوتية وتثبت ذاتها بوصفها مفهومًا فلسفيًا صرفًا. يشير المؤرخ ألان دو ليبيرا قائلًا: “إن أرسطو يقدم الوسيلةَ لبناء بديل فلسفي للنزعة الاجتماعية المسيحية- ولإبطال مبدأ تحقيقها ذاته: المحبة المسيحية”.
بحلول القرن الخامس عشر، ردًا على بوريدان، أصبح تأويل لاهوتي متجدد للصداقة رائجًا في الدوائر الأكاديمية في أوروبا الوسطى. مفكرون مثل بول من وورتشين، فيرسوريس، ونيكولا دوربيلوس أعادوا الارتباط بتقليد القرن الثالث عشر- لا بنسخهِ، بل بتكييفه ليلائم السياقات الفكرية الجديدة. وفي إعادة القراءة التي قاموا بها، استعاد الكاريتاس المسيحي مركزيته، في حين أن الصداقة الأرسطية وُضِعت في مرتبة أدنى أو أعيد توجيهها روحيًا.
“امتدت فكرة الصداقة الأرسطية إلى ما هو أبعد من الأوساط الأكاديمية، مشكّلةً المواعظ الدينية، الأطروحات، الخطابات السياسية والوثائق العملية؛ ممهدة الطريق أمام التأملات الحديثة”
أصبح كتاب “الأخلاق” موضع تفصيل عقائدي، حيث حلّت الفضائل اللاهوتية – لا سيما “dilectio”- محلّ التصنيفات الفلسفية البحتة. وهذا الإحياء أشار إلى تحول في الفلسفة المدرسية، مختلف عن نماذج القرنين الثالث عشر والرابع عشر، كما عكس تحولات أوسع في الفكر الديني والثقافي في أواخر العصور الوسطى. هكذا، امتدت فكرة الصداقة الأرسطية إلى ما هو أبعد من الأوساط الأكاديمية، مشكّلةً المواعظ الدينية، الأطروحات، الخطابات السياسية والوثائق العملية؛ ممهدة الطريق أمام التأملات الحديثة عند إيراسموس، مونتين، ديدرو، وروسو.
في هذه السيرورة الطويلة لدمج الفلسفة الوثنية وإخضاعها للتثاقف (التبادل الثقافي) ضمن العصور الوسطى المسيحية، يمكن ملاحظة التغلغل التدريجي للصداقة الأخلاقية في المجال السياسي. الحكم بالعاطفة أصبح مثالًا أعلى ناشئًا: بات يُتوَّقع من الأمير أن يسيطر على العاطفة ويوظّفها على نحو فعال. وبدأ المنظرون السياسيون يتصورون عقلانية تدمج الحياة الأخلاقية والانخراط العاطفي عند كل من الحاكم والمحكوم. من خلال جهود الباحثين الأرسطيين، أصبحت طبيعة الصداقة التعاقدية ركيزة من ركائز المجتمع، إنما ليس من غير بعض التناقض. هل يمكن أن يكون للملك أصدقاء؟ “لا”، أجاب ألبرت الكبير: الصداقة تستلزم المساواة والألفة، والألفة تولد الاحتقار. ففي زمن تتشكل فيه الفخامة المقدسة للملكية، كانت المسافة الرمزية ضرورية. لكنْ، بعد قرن، في ظل حكم شارل الخامس، قدم نيكول أورسم رؤية مختلفة: نعم، بوسع الملك – ويجب عليه- أن ينمي الصداقات، لئلا يشبه الطاغية؛ ذلك الرجل الوحيد والعاجز عن الحب والصداقة. على الحاكم الجيد أن يكون محاطًا بمن يقدمون له النصيحة السديدة، وأن يكون عنده أساس أخلاقي راسخ. ورغم أنه قد لا يحتاج إلى أصدقاء بالمعنى الدقيق، فهو بحاجة إليهم لكي يمارس الفضيلة ولكي يجسّد الإحسان الذي يتمتع به حكمه.
في بلاط بورغندي في القرن الخامس عشر – حيث انتشرت “أطروحة في الصداقة” لغيّوم فيلاستر – ظهر تمييز أكثر حسمًا بين “الأصدقاء الأخيار، الحقيقيين، والمخلصين” للأمير وأعدائه الضارّين. في ذلك المجتمع، لم يكن ثمة مكان للحيادية. الصديق أو “الحليف” كان أولًا وقبل كل شيء هو الشخص الذي ليس عدوًا. والمثل الأعلى للحب الفعال كان حاضرًا باستمرار في الخطاب النظري، السجلات التاريخية، ونشاطات البلاط التي تسمى “pas d’armes” (“بدون سلاح” وهي مباريات قتالية عاليةُ الطقسيّة)، لكن التطبيق ظل غالبًا قاصرًا: كشفت كثرة التحالفات عن هشاشتها. مع ذلك، ظل هذا الطقس سائدًا.
كذلك، أظهر المؤرخ كلاوس أوشيما مؤخرًا أن إيماءات التقارب الجسدي كانت تعابير جوهرية عن الصداقة. كانت اليد تُقرأ بجميع أشكالها الرمزية: المصافحة بوصفها إيماءة احتفالية؛ لمس الأيدي كعلامة على المصالحة والحب؛ حركات اليد التي تعبّر عن الحزن؛ اليد المرفوعة لأداء القسم على الآثار المقدسة أو الأناجيل؛ الأيدي المطوية كإيماءات للصلاة أو الابتهال. أشار العناق إلى حسن النية. القبلة أشارت إلى السلام، التحية، المحبة الأخوية والمصالحة؛ وكانت تلعب دورًا في كل من الولاء الإقطاعي والطقس القربانيّ. وحتى مشاركة السرير كانت متعلقة بالدبلوماسية أكثر منها بالجنس. بالمثل، كانت مشاركة الحصان إيماءة لصنع السلام المساواتيّ. ورغم أن مجتمع العصور الوسطى كان يميز بين الفضاءات العامة والخاصة، إلا أنه لم يفصل بينهما: كانت المجالات المؤسساتية والعاطفية متشابكة بعمق. في الصداقة، أصبحت الإيماءات الشخصية إعلانات عامة والتزامات فردية في الآن ذاته. هكذا، صمدت الصداقة أمام هذا التحول من النظام الإقطاعي إلى الدولة الحديثة: كان الاستقرار السياسي قائمًا على العلاقات الشخصية. العاطفة والسياسة كانتا متلازمتين.
تُظهِر الصداقة، وفقًا لتمثيلها، تطبيقها، وتصويرها المثالي، كيفية تصور المجتمع لذاته ولنسيجه الاجتماعي. وفي جوهرها، كانت الصداقة رباطًا اجتماعيًا مصوَّرًا بأسلوب درامي، مصاغًا على نحو عاطفي، وهو ما أدركه مفكرو العصور الوسطى بوصفه قوة فعّالة في تحقيق التماسك السياسي. اجتازت الصداقة القرون، مغيّرة أشكالها الخارجية دون أن تفقد جوهرها قط: في بعض الأحيان كانت فضيلة وثنية، في الأخرى هابيتوس مسيحية، أو أداة سياسية؛ لكنها ظلت ذلك الرباط المرن إنما المتين الذي يربط القلوب معًا ويشكّل الجماعات. وبعيدًا عن كونها مجرد شعور، ظلت تُعرض للجمهور، تمارس ضمن طقوس، تخضع للتنظير، تُناقَش- أو بكلمة واحدة تؤرخن (تُدرج في سياق تاريخي). وربما تكمن قوتها الأعظم في هذا: أن تُظهِر، من خلال نسيج تحولاتها، ما تتطلع المجتمعات إليه. أخيرًا، في زمن تبدو فيه الروابط الاجتماعية في حالة تغير مستمر، تعني العودة إلى مفهوم الصداقة في العصور الوسطى إدراكَ أنها كانت أكثر من مجرد مثال أخلاقي أعلى: لقد كانت، في كل مرحلة، طريقة للعيش في العالم.
رابط النص الأصلي:
https://psyche.co/ideas/how-the-nature-of-friendship-has-changed-through-the-centuries
(*) بينيديكت سير: كاتبة ومؤرخة فرنسية متخصصة في التاريخ الديني والثقافي والسياسي للعصور الوسطى. عضو في المعهد الجامعي الفرنسي، وأستاذة محاضرة في جامعة باريس نانتير. من كتبها “التفكير في الصداقة في العصور الوسطى” (2007)، “العار بين التوبة والندم” (2013)، “اختراع الكنيسة” 2025.