كتب الأستاذ: ادريس الخضراوي..في عُمق الأدب قراءة في الأدب المعاصر.
في عُمق الأدب قراءة في الادب المعاصر
ادريس الخضراوي
يتعيّن الأدب المعاصر بوصفه استكشافًا عميقًا للذّات الإنسانية، ورحلة مدهشة في دروب ومتاهات الحياة الداخليّة. هكذا تقترح الأعمال الكبرى للقرن العشرين استقصاءً غير مسبوق، وتجددًا جذريًا تمامًا في الرحلة داخل النفس الإنسانية، وفي غموض ما يُسمّى الإنسان. لقد مضى ذلك العهد، مع ألان روب غرييه، حيث الاعتقاد الذي كان سائدًا هو أنَّ الكاتب شخص ليس لديه ما يقول. على العكس من ذلك، يصرّ الأدب المعاصر، من ناحية، على الخروج من شرنقة مفهوم الاستقلاليّة التي بات يُنظر إليها، من منظور النقد الثقافي، على أنها ملوّثة، ومن ناحية أخرى تعترف نظرية الأدب المعاصرة بعلاقته المركّبة بالإنسان والعالم. في الأدب المعاصر يشدّد الكاتب، الذي أعلنت البنيوية موته سابقًا، مع أنّه لا يزال على قيد الحياة كما جادل في ذلك أنطوان كومبانيون في كتابه “شيطان النظرية”، على أن في جُعبته الكثير مما يستطيع قوله، هو وحده لا سواه، سواء أتعلّق الأمر بذاتيته أو بذاتية المجتمع الذي يعيش فيه.
يمكن الإشارة، في هذا السياق، إلى بيان الأدب العالمي باللغة الفرنسيّة الذي وقّعه عام 2007 أربعة وأربعون كاتبًا فرانكفونيًّا، إذ يلاحظ القارئ أنَّ مفهوم العالم قائم في جوهر منظور جديد للأدب. نقرأ في البيان: “ها هو العالم يعود، وهذه هي أروع المستجدّات. أوَلم يكن العالم هو الغائب الأكبر عن الأدب الفرنسي؟ العالم، والموضوع، والمعنى، والتاريخ جرى وضعهم جانبًا من قبل كبار المفكّرين الذين ابتدعوا أدبًا ذاتيّ الغائية، كما قيل حينئذ، أدبًا يصنع نقده الخاص من خلال حركة تعبيره ذاتها”.
يشدّد ألكسندر جيفن على أنّ الأدب المعاصر ينطوي على وعد جديد
إنّ هذا الخروج إلى العالم من أجل فهم أعمق لما هو خاص وحميمي، كما يدلّ على ذلك مصطلح extime الذي تستعمله الكاتبة الفرنسية آني إرنو لتمثيل تلك الوضعية التي تغدو فيها الكتابة كنزًا لا ينضب من الإمكانيات التي تُتيح النفاذ إلى الأعماق الدفينة من خلال اللقاء بالعالم الخارجي. إنّ هذا الخروج إلى العالم، الذي يهيمن بقوة في أعمال أدبية معاصرة، في الرواية والقصة والشعر، ليس سعيًا لإرساء أسس جماليات مختلفة أو غير مسبوقة، فلطالما كان الأدب، كما يقول تودوروف، هو الأول بين العلوم الإنسانية، بل هو الوحيد أيضًا. وبما أن المواقف الإنسانية، والاستعدادات، وأشكال التفاعل بين البشر، شكّلت الاهتمام الأبرز للأدب، فإن هذا الأخير لم يكفّ عن أن يتعيّن بوصفه الملاذ اللانهائي للمعرفة حول الإنسان والعالم الذي يعيش فيه. وعليه، فإذا كان هناك من خطر يتهدّد وجود الأدب، إذا استعرنا العنوان الذي وضعه تودوروف لكتابه “الأدب في خطر”، أو يقوّض استمراريته في النهوض بتأدية الرسالة التي نذر نفسه للتعبير عنها منذ أن أدرك الإنسان أهمية الكلمات والإيقاع في إعطاء معنى لما يعيشه، فإنّ هذا الخطر يتمثّل، بالأساس، في انكفاء الأدب على ذاته، أي في الاستقلاليّة المرتكزة على أسس ملوّثة بحسب الناقدة الفرنسية جيزيل سابيرو، مما يفقده المكانة التي تمتّع بها منذ القدم، ولا سيّما فيما له علاقة بعملية البحث عن المعرفة أو البحث عن الحقيقة بالمعنى الفلسفي.
لتجلية هذا المفهوم الجديد عن العلاقة المركّبة بين الأدب والأعماق الدفينة، والدور الذي تنهض به النصوص الأدبية المعاصرة في استكشاف الصدمات والأزمات التي يكون الإنسان نهبًا لها، سنستعيد بعض الأفكار النظرية الأساسيّة التي أثارها الناقد الفرنسي ألكسندر جيفن في تناوله التحوّل الذي يطاول وضعية الأدب في القرن الواحد والعشرين، والاستجابة التي يبديها الكتّاب للأسئلة المحيّرة والأزمات المقلقة التي يواجهها الإنسان المعاصر، لدرجة يتعيّن فيها الأدب بوصفه شأنًا سياسيًا، وهذا هو العنوان الذي وضعه ألكسندر جيفن لأحد كتبه التي كرّسها للإضاءة على هذا التحول. وقريب من هذا التصوّر ما أثاره الفيلسوف الفرنسي جاك رانسيير في كتابه “سياسة الأدب”.
“الأدب لا يقتصر على تصوير التجارب الإنسانية المختلفة، بل يسهم أيضًا في إصلاح وترميم الوضع البشري”
هكذا، بدل الحديث عن موت الأدب أو احتضاره، وبدل التشكيك في الغاية التي من أجلها وُجد، يُستحسن، من منظور ألكسندر جيفن، الاعتراف بهذه الحقيقة: الأدب في حالة جيدة، لكنّه يشهد تغيّرات عميقة. الأدب يَحفِر ويغوص في أعماق ما يُكوّن الإنسان، إذا استعرنا عبارة مالارميه الشهيرة “الحفر في الشعر”، التي ليست في الجوهر سوى الاستكشاف العميق للشعر بحثًا عن المعاني أو التفاصيل الدقيقة التي تحجبها اللغة. هل كان بمقدور مالارميه أن يستكشف العدم لولا قيامه بهذا الحفر فيما وراء اللغة؟ وقد أظهرت جوليا كريستيفا في كتابها “ثورة اللغة الشعرية” كيف أن العمل على اللغة عند مالارميه ينبع من الأزمة التي كان يعانيها، والمعروفة بأزمة توران، ليس على المستوى الشخصي فحسب، وإنما أيضًا على مستوى أعمّ، حيث كانت فرنسا في أواخر القرن التاسع عشر تواجه تحديات صعبة.
واضح أنّ المفاهيم التي قامت عليها النظرة الجمالية للأدب منذ “الفن للفن”، كما عبّر عنها تيوفيل غوتييه (1811-1872) في مقدمته الشهيرة لروايته “السيدة موبان”، حيث شدّد على أن الغائية الأساسية للأدب جمالية، وأن خدمة الفن يجب أن تتكرّس لأجل ذاته، وليس من أجل الأخلاق أو الدين أو السياسة، واضح أن هذه النزعة الجمالية الجوهرية لم تعد هي ما يحدّد طبيعة الأدب أو وظيفته في المجتمعات المعاصرة التي، في خضم العولمة والرأسمالية المتوحّشة وما ينجم عنهما من حروب وصراعات وهجرات فردية وجماعية، تشهد تغيّرات متسارعة تزداد معها رهبة الإنسان وحيرته، ويتعاظم قلقه على مصيره، مما يجعل من الأدب مصدرًا علاجيًّا حاسمًا لا يمكن مقاومته.
بهذا المعنى، يشدّد ألكسندر جيفن على أن الأدب المعاصر ينطوي على وعد جديد. فالانجذاب الذي يبديه الكتّاب نحو العناية بقضايا من قبيل سرد التجارب الخاصّة والحميمة، والإلحاح على الغيرية، واستكشاف الهشاشة البشرية، والمخاطر المحدقة بالبيئة، كل ذلك يقدّم أوفى دليل على ما يبدو جوهريًا في العمل الأدبي، ومفاده أن هذه الموضوعات ليست، في نهاية الأمر، سوى التجسيد الأسمى لرسالة الأدب؛ أي التعبير عن الأفراد والجماعات الأقلية والمعرّضة للخطر، وردّ الاعتبار لتلك الحيوات والذاكرات المهمّشة المحرومة من إمكانيات إسماع صوتها. إنّ رسالة الأدب، على هذا النحو، ليست سوى الإصرار على إظهار قدرته على إصلاح وترميم ما في العالم الذي نعيش فيه من أعطاب وتصدّعات. فإذا لم يستطع الأدب معالجة هذه الاختلالات، فعلى الأقل قد يعمل على إنقاذ الأرواح القلقة في المجتمعات المعاصرة التي باتت مجرّدة من الكثير من السرديات والأطر الناظمة.
أظهرت جوليا كريستيفا في كتابها “ثورة اللغة الشعرية” كيف أن العمل على اللغة عند مالارميه ينبع من الأزمة التي كان يعانيها
لشرح وظيفة الأدب هاته، يُشير تودوروف إلى كلمة مفتاحية في اللغة الإنكليزية هي insight، التي يقابلها في العربية: التبصّر، أو نفاذ البصيرة، أو اكتناه الأعماق. تشرح هذه اللفظة بوضوح المهمّة الأساسية الملقاة على عاتق الأدب المعاصر، أي استكشاف ورؤية ما هو خفيّ أو غير ظاهر للناس عادة. فالأدب لا يقتصر على تصوير التجارب الإنسانية المختلفة، بل يسهم أيضًا في إصلاح وترميم الوضع البشري. وليس هذا الدور طارئًا على الأدب؛ فلطالما كان هذا الأخير، كما يشير إلى ذلك المقارن الألماني أتمار إيطي، شديد الارتباط بما يشغل الإنسان: العيش معًا. فمنذ ملحمة جلجامش و”الممالك الثلاث” الصينية و”ألف ليلة وليلة”، وصولًا إلى الأعمال الأدبية الكبرى في الآداب المختلفة، كان العيش معًا، كما يقول إيطي، هو الشغل الشاغل للأدب، بخلاف التقنية التي لم تجلب للبشرية سوى الحروب والدمار والتوسّع على حساب الآخرين.
بهذا المعنى، يمكن أن نفهم السّر الذي يجعل من بعض الأعمال الأدبية الكلاسيكية تواصل إلهام العلوم الإنسانية في عصرنا، وتمكين القرّاء من لحظات تعلّم استثنائية لا يمكن تجاوزها. إنّ ما يقدّمه الأدب للقرّاء لهو أكثر بكثير من مسألة الإمتاع. الأدب يتيح لنا إدراك وفهم عوالم بعيدة تستثير فينا الحاجة إلى مزيد من التفكير والتأمّل. ورغم أن الأدب، من حيث المعرفة التي يمنحنا إياها، يظلّ طموحه أقلّ بكثير من الخطابات العلمية، فهو لا يزعم القدرة على بسط حقائق، ولا استقراء الأفكار أو بناء نظريات شارحة، ولكنه مع ذلك أساسي وحيوي بالنسبة للإنسان. فإزاء الدّقة التي يوصف بها العلم، يستطيع الأدب أن يعرض العابر والمفاجئ. وعلى عكس العمومية أو النزعة الكلية، يحتفي الأدب بالفريد، والاستثنائي، والدقيق، والحسّي، وصدفة لقاء، ونبضة قلب، وعنف الشعور أو التغيير.
إنّ الأدب، بهذا المعنى، أساسي وضروري كي يعيش الإنسان في توازن، وفي تصالح مع ذاته، ومع العالم الذي يعيش فيه. لقد أشارت جوليا كريستيفا، في إحدى محاضراتها، إلى أن فرويد كان يطلب من مرضاه أن يتذكروا تجاربهم الصادمة والقاسية التي مرّوا بها من أجل التغلب على الشعور بالذنب أو ما يشكّل مصدر شقائهم، وهو، بذلك، في الحقيقة، كان يطلب منهم أن يصيروا كتّابًا ينتجون الروايات والقصص والأشعار التي يروون من خلالها خبراتهم السابقة، بما فيها خبراتهم العاطفية. هذا يعني أن شفافية الأدب تقع في صميم البحث عن الزمن المفقود وفي جوهر الحياة المتوازنة. وبالرغم من المنافسة الشرسة التي يواجهها الأدب اليوم، في عصر الصورة والذكاء الاصطناعي، فإن الأصالة التي يتمتع بها فيما يتعلق بفهم الوجود، وفهم الإنسان لذاته كي يتمكّن من مواجهة وفكّ لغزية العالم الذي يعيش فيه، ذلك العالم الذي يظلّ مستعصيًا على الآلة، كلّ ذلك يجعل من الإبداع الإنساني جسرًا مثاليًا لعبور آمن في عالم أصبح قاحلًا للغاية. وكما يقول الفيلسوف ألكسندر كوجيف: “من دون الإنسان تكون الكينونة خرساء: تكون هنا، لكنها لن تكون الكينونة الحقة”.
* ادريس الخضراوي كاتب من المغرب.