كتبت: صوفي عليان.عن الفنان السوري: جمال سليمان “قصتي” و”مملكة القصب”عن البشر والمكان والذاكرة والوطن.- مشاركة: سمر محفوض.




جمال سليمان “قصتي” و”مملكة القصب”: عن البشر والمكان والذاكرة والوطن
صوفي عليان 
جمال سليمان أمام الكاميرا الوثائقية
ضمن فعاليات مهرجان الدوحة للأفلام في دولة قطر، الذي عُقد مؤخرًا، عُرض فيلم المخرج ياسر عاشور “قصتي” حول النجم السوري جمال سليمان، يحكي فيه عن تجربته وعن شركاء الأيام الصعبة.يخرج الفنان السوري المخضرم من دائرة الشخصي إلى مساحة الاعتراف العام، في عمل وثائقي يفتح بوّابة غير مرئية بين ذاكرة رجل وقلب وطن، فتتجاور الجراح، ويتداخل الحنين، ويصبح الماضي مساحةً يتقاسمها الفرد والبلد في اعتراف واحد.ورغم أن بناء الفيلم يترك فجوات تستدعي النقاش، فإن أداء جمال سليمان أمام الكاميرا يقدّم قيمة فنية تكاد تتجاوز الفيلم نفسه. في البداية، يعتمد الفيلم على أسلوب كلاسيكي في السرد: مقابلة طويلة، أرشيف، خطٌّ زمني مستقيم، وغياب واضح للتجريب البصري أو التفكيك الدرامي. هذا الأسلوب يحقق وضوحًا لكنه يفتقر إلى المغامرة، خصوصًا في عمل يقدّم شخصية مليئة بالتقلبات والانتقالات الوجودية.حضور الفنان جمال سليمان أمام الكاميرا لا يقوم على الاستعراض، بل على صدق هادئ، ورصانة لغوية، وقدرة لافتة على تحويل التفاصيل الصغيرة إلى لحظات اعتراف ناضجة.السيرة هنا ليست استعادةً للماضي، بل مواجهة بين رجل وظلّه، ومصافحة متوترة بين من كانه ومن صار إليه.ثم يبرز جانب آخر من قوة الفيلم: قدرة سليمان على سحب المتلقي نحو عالمه من دون أن يفرض عليه العاطفة.يحكي عن نومه في الحدائق، وعن مطبعة في دمشق عاش وعمل فيها، وعن أبيه الذي رأى فيه مشروعًا فاشلًا، وعن اللحظة التي تَهَدَّمَت فيها أحلام جيل كامل بعد 1967.الصدق في هذا السرد لا يحتاج إلى مؤثرات ولا حبكات جانبية؛ فالرجل يقدّم ذاكرة حية يعرف كيف يقطعها ويسندها ويتركها تتنفس أمام الكاميرا.ومع ذلك، يبقى الإحساس بأن المخرج كان قادرًا على الذهاب أبعد: بناء رؤية بصرية أشد، مساءلة أعمق، واشتباك أكبر مع التحولات السياسية التي صنعت هذه السيرة.الفجوات التي تُظهر ما لم يُقَل
من الواضح أن الفيلم تجنّب بعض الأسئلة الضرورية: لماذا التزمت النخبة الفنية السورية الصمت طويلًا؟ ما علاقة الفنان بالمؤسسة الرسمية؟وكيف تتغيّر المعايير الأخلاقية لمهنة الفن في لحظات الأزمات الكبرى؟هذه الأسئلة تظهر بين السطور لكنها لا تُطرح مباشرة، وكأن الفيلم يخشى أن يثقل سيرة الرجل بما هو سياسي ومؤلم جدًا.
“من الواضح أن “قصتي” تجنّب بعض الأسئلة الضرورية: لماذا التزمت النخبة الفنية السورية الصمت طويلًا؟ ما علاقة الفنان بالمؤسسة الرسمية؟”
أخيرًا، تظهر أجمل طبقات الفيلم: قدرة الفنان على أن يكون راويًا أصيلًا، ليس لسيرته فقط، بل لأي حدث اجتماعي أو سياسي أو تاريخي.سليمان يملك مهارة نادرة: يقدّم الحدث بوصفه جزءًا من حياة الإنسان، لا حدثًا معزولًا، ويحوّل التاريخ إلى مادة قابلة للحياة أمام الكاميرا.كثيرون يمكنهم التمثيل، لكن قليلين يستطيعون الرواية بهذا العمق. هو يعرف متى يصمت، ومتى يبطئ الإيقاع، ومتى يسمح للانفعال أن يظهر دون مبالغة.هذه السيطرة على الإيقاع الشخصي هي ما يجعل حضوره أكبر من الفيلم نفسه.ينجح الفيلم بقدر ما يقترب من سليمان، ويضعف بقدر ما يبتعد عن تفاصيل المكان والمنفى والأسئلة الشائكة. لكن في النهاية، يظل جمال سليمان هو العنصر الحاسم:فنان قادر على توجيه الكاميرا، وجرّ الذاكرة، وفتح أبواب يصعب على غيره فتحها.ولهذا يُشاهَد الفيلم من أجل الرجل، ومن أجل تجربته، وصوته، وصدقه، أكثر مما يُشاهَد من أجل الصناعة.

هادي حسن خلال مهرجان الدوحة للأفلام
“مملكة القصب”: كعكة أثقل من وطن
فيلم “مملكة القصب”، للمخرج العراقي حسن هادي، عُرض مؤخرًا ضمن فعاليات مهرجان الدوحة للأفلام، وكان قد فاز سابقًا بجائزة الجمهور في “أسبوع المخرجين” ضمن مهرجان كان السينمائي، إضافة إلى جائزة “الكاميرا الذهبية” لأفضل فيلم أول.وهذا الفوز لم يكن صدفة؛ فالفيلم الذي يحمل اسم “كعكة الرئيس” في نسخته الدولية يقدّم تجربة بصرية وإنسانية تنسج حكايتها من الهامش قبل المتن، ومن الخلفية قبل الملامح، في عمل يبدو فيه العالم هو البطل الأول لا الشخصيات.تعود بنا حكاية الفيلم إلى أوائل التسعينيات، إلى عراقٍ يختنق تحت الحصار وتضيق فيه الحياة. في هذا المناخ المتعب، يقترب عيد ميلاد صدام حسين، فتتلقى الطفلة لميعة في مدرستها مهمة مستحيلة: إعداد كعكة للاحتفال بعيد ميلاد الرئيس، فيما يُوزّع على زملائها نصيبهم من مهام الاحتفال المفروض من فوق. اختيار الطفلة لا يأتي من فراغ، بل من منطق السلطة ذاتها: أن يتحمّل الأضعف عبء الاحتفال بالأقوى. لميعة فتاة يتيمة لا تملك ثمن الطحين والبيض والسكر، لكنها مكلّفة بأن تقدّم كعكة يجب أن تكون كاملة، ولو كانت البلاد كلها ناقصة. وفي جعبتها ديكها الصغير “هندي”، رفيق صامت لرحلة لا تقوى على حملها طفلة وحدها.الأهوار… حين يصبح المكان ذاكرة أعمق من البشر
صُوِّر الفيلم بالكامل في العراق، وتحديدًا في الأهوار الجنوبية، تلك المسطحات المائية التي تُعدّ مهدًا قديمًا للحضارات، والمدرجة على قائمة اليونسكو للتراث العالمي منذ عام 2016.هنا، لا يعمل المكان كخلفية، بل كطبقة أصلية في السرد: الماء، الطين، القصب، الأفق المفتوح، السكون الذي يقطعه صوت طائرة مقاتلة، ولميعة التي تذهب بالقارب إلى مدرستها يوميًا. كل ذلك يصنع عالمًا يبدو وكأنه خرج من ذاكرة الأرض ذاتها، لا من كتابة بشرية.تمكّن المخرج حسن هادي من جعل الأهوار وثيقة حية، جمالها ليس تزيينًا، بل حضورًا مؤلمًا يذكّر بأن الطبيعة بقيت شاهدة على الخراب حين تغيّر كل شيء آخر.استعارتان لجيل يهرب من قدره
تدور لميعة يومها كله بحثًا عن مكونات الكعكة، فيما البلاد تشحّ بكل شيء إلا الألم. تصطدم بالفقر من جهة، وبقسوة المجتمع من جهة أخرى، وبالفوضى التي تصنعها الحروب والحصار من فوقهما.أما الديك هندي فليس مجرد رفيق طفلة، بل رمز حيّ لأثر الحياة التي تتشبث بما تبقى. وجوده يضيف طبقة سريالية خفيفة تمنع الفيلم من التحول إلى تأبينٍ ثقيل. كأن هندي يمسك العالم من طرفه كي لا يسقط فوق رأس لميعة دفعة واحدة.
“”مملكة القصب” ليس فيلمًا سياسيًا فقط، ولا اجتماعيًا فقط، ولا شاعرًا فقط. إنه كل ذلك معًا، بقدر لا يحاول أن يبالغ، ولا يخاف من البساطة”
أما سعيد، رفيق لميعة في مقاعد المدرسة وفي الفقر نفسه، فتلتقيه مصادفة في العاصمة وهو يسرق ما يسدّ به رمقه، فيما والده يمدّ يده للناس طلبًا للعون. ورغم ما يثيره المشهد من مرارة، تتجاوز لميعة فعلته، وتسير معه في رحلة البحث عن مكوّنات الكعكة. هكذا يتحول الاثنان إلى صورة مكثّفة لبلدٍ يتشبّث بالبقاء، يركض كي لا يسقط، ويحلم بحلاوة لا يصل طعمها إلى فم أحد.من يتابع الفيلم يدرك سريعًا أن العدسة ليست مشدودة إلى لميعة وحدها، بل إلى ما يحيط بها: الجرحى في الطرقات، الفقراء في الأزقة، القصف الأميركي المتكرر، الوجوه المرهقة، المستشفى المتداعي، وأصوات الناس وهم يبحثون عمّا يسدّ الرمق.الفيلم لا يشرح شيئًا، بل يترك الخلفية تعمل عملها، كأنها الراوي الحقيقي للحكاية. هذه التقنية تمنح الفيلم صدقية نادرة، لكنها أيضًا تجعل المشاهد يشعر بأن لميعة ليست بطلة فقط، بل تجسيد لطفولة بلدٍ كامل.الديكتاتور… حضور أكبر من الكادر
صورة صدام حسين تظهر في كل مكان: على الجدران، عربات النقل، بوابات المدارس، مكاتب الموظفين. ابتسامة ثابتة، بزّة عسكرية، بارودة أو عصا. لكن الأهم أن الصورة حاضرة في الواجهة، فيما الحياة المنهارة تختبئ في الخلفية.الفيلم لا يقدّم صدام كشخص، بل كفكرة، ظلّ سياسي ممتد فوق البلاد، مكتفٍ بأن تصله الكعكة في موعدها. يبتسم الديكتاتور لأن الكعكة جاهزة، حتى لو كان كل شيء آخر ينهار: الاقتصاد، المجتمع، الأخلاق، والأجيال.يمتلك حسن هادي حساسية عالية تجاه التفاصيل، هو لا يصنع دراما من الأحداث، بل من الفراغ بين حدث وآخر. لا يرفع صوته، ولا يضيف موسيقى تبكي، ولا يضع مونولوغات لشرح المأساة. بل يترك الأشياء تتكلم. هذا الاقتصاد في التعبير يجعل الفيلم أكثر صدقًا وأكثر قدرة على الوصول إلى دهشة المشاهد من دون ادّعاء.كعكة صغيرة تحمل وزن بلد
“مملكة القصب” ليس فيلمًا سياسيًا فقط، ولا اجتماعيًا فقط، ولا شاعرًا فقط. إنه كل ذلك معًا، بقدر لا يحاول أن يبالغ، ولا يخاف من البساطة.كعكة صغيرة تطلبها السلطة تكشف ما لم تكشفه خطب السياسة. طفلة فقيرة تحمل ديكًا صغيرًا تكشف هشاشة وطنٍ يثقل كاهل أطفاله بما لا يحتملونه. وصورة ديكتاتور مبتسم تذكّر بأن العالم كان ينهار، لكن الاحتفال كان يجب أن يتم في موعده.هذا فيلم يُرى بالعين، ويُحسّ بالقلب، ويظلّ عالقًا في الذاكرة طويلًا، تمامًا كما تبقى رائحة السكر المحترق في بيتٍ لم يعرف الحلوى منذ زمنٍ بعيد.

أخر المقالات

منكم وإليكم