المسرح الموسيقي في ذروة الجمال..
قراءة في عودة ‘الست’ على طريقة 2025
آن الصافي Ann El Safi
يشكل المسرح الموسيقي مزيجًا فنيًا معقدًا يلتقي فيه الدرامي بالسمعي والبصري، لخلق تجربة وجدانية متكاملة. لم يعد مجرد وسيلة ترفيه، فهو قد أصبح أداة قوية لسرد السير الذاتية واستحضار الرموز الثقافية وإحياء التراث. تأتي مسرحية “أم كلثوم … دايبين في صوت الست” (المُقدم أول عروضها في أكتوبر 2025) كنموذج حديث وطموح يتجاوز فكرة “الاستعراض الغنائي” إلى فضاء “مسرحية السيرذاتية” التي تبحث في الروح والإرث الإنساني لأيقونة غنائية.
تُقدّم هذه القراءة النقدية تحليلاً متعمقاً لمسرحية “أم كلثوم… دايبين في صوت الست” كنموذج متميز للمسرح الموسيقي المعاصر، حيث تتتبع آليات اشتغاله من خلال ثلاثة محاور تحليلية رئيسية: البناء الدرامي، والأداء التمثيلي والغنائي، والتقنيات البصرية والموسيقية.
أولاً: البناء الدرامي – سرد السيرة عبر اللحظات المفصلية
تمتلك المسرحية بناءً دراميًا غير تقليدي، يعتمد على “لوحات” أو “مشاهد منفصلة” تقدم لحظات محورية في حياة أم كلثوم، بدلاً من سرد خطي متصل. هذا الاختيار الإخراجي الذكي يتناسب مع طبيعة الشخصية الأسطورية، حيث يكون التركيز على التأثير والرمز بدلاً من التفاصيل اليومية.
المنهجية:
الانزياح الزمني (الفلاش باك): كما في المشهد الثاني، حيث يتم سرد قصة الاكتشاف من خلال منظور ناقد، مما يضفي مصداقية توثيقية ويخلق مسافة تأملية بين المتفرج والحدث.
الرمزية البصرية: يبلغ هذا الأسلوب ذروته في مشهد لقاء السلطانة منيرة، الذي يتحول من مواجهة واقعية إلى استعارة مسرحية خلابة عن “تغير العصور الفنية”. استخدام الإضاءة ثنائية اللون والخدعة البصرية (اختفاء منيرة في الظل) يحول الصراع الفني إلى لوحة شعرية عن فن يخلي المكان لفن آخر أقوى.
التقطيع السينمائي: في مشهد أم كلثوم والملحنين، نرى تأثير اللغة السينمائية على المسرح. الانتقالات السريعة بين الملحنين، مع تغيير الأزياء والديكور والإضاءة، تخلق إيقاعًا حيويًا يعكس تنوع وغنى رحلتها الفنية.
المونولوج الدرامي: يعد مشهد السيدة عطيات، زوجة الشاعر أحمد رامي، إضافة نوعية للبناء الدرامي. فهو لا يقدم معلومات جديدة بقدر ما يكشف عن البعد الإنساني المخفي وراء الأضواء. تحويل “الزوجة الغيورة” إلى شخصية متعاطفة تبوح بألمها عبر كلمات أغنيات رامي نفسه، هو ضربة كاتب بارعة ترفع العمل من مستوى السيرة إلى مستوى التحليل النفسي والاجتماعي للفن.
التوازن الدرامي: نجح العمل في تحقيق توازن بين:
الشخصي والعام: مشاهد الطفولة والعائلة مقابل مشاهد الرحلات والحفلات.
الفرح والتراجيدي: براعة الأغاني مقابل المونولوج المؤلم للسيدة عطيات وحزن الرباعيات.
الأصالة والحداثة: استخدام التنورة والمولوي في مقابل الخدع البصرية والتقطيع السينمائي.
ثانيًا: الأداء التمثيلي والغنائي – استحضار الروح لا التقليد الأعمى
يشكل الأداء في المسرح الموسيقي تحديًا مضاعفًا، حيث على الممثل أن يكون مقنعًا دراميًا ومتمكنًا غنائيًا في آن واحد.
تجسيد الشخصية الرئيسية: كان القرار الأذكى هو عدم الاعتماد على ممثلة واحدة، فقد قسمت الأدوار بين موهبة ملك أحمد (الطفولة) وأسماء الجمل (الشباب). هذا التقسيم سمح بمعالجة مراحل العمر المختلفة بطبيعية أكبر. الأهم من ذلك، أن الأداءين تجنبا التقليد الكاريكاتوري لأم كلثوم، واتجها نحو “استحضار الروح” من خلال التعبير الجسدي الهادئ، والتركيز على العمق العاطفي في الغناء، مجرد محاكاة الحركات أو النبرة.
قوة الشخصيات المساندة: لم تكن الشخصيات الأخرى مجرد ديكور، فحضرت كمحركات درامية:
منيرة المهدية (ليديا لوتشيانو): قدمت نموذجًا للخصم الذي يثير التعاطف، مشهدها كان صراع كبرياء أكثر منه صراع نفوذ.
السيدة عطيات: شخصية “الصامتة المتكلمة” كانت مفاجأة العرض. أداؤها المتزن والمليء بالكرامة حول مشهدها إلى واحدة من أعمق اللحظات إنسانية في المسرحية.
الملحنون (أحمد رامي، محمد عبد الوهاب): تميز أداء سعيد سلمان وأحمد علي الحجار بالصدق والتمكن، حيث نجح الأخير خصوصًا في محاكاة عبد الوهاب صوتًا وحركة عبر مراحل عمرية مختلفة، بفضل المكياج المحترف.
الفريق الراقص: قدم فريق الرقص لغة بصرية موازية للأغاني، خاصة في مشاهد التنورة والصوفية، مزاوجًا بين الأصالة واللمسة الإخراجية المعاصرة.
ثالثًا: التقنيات البصرية والموسيقية – آليات صناعة الأسطورة
هنا يتجلى ambition (الطموح) الإخراجي للعمل، حيث استخدمت تقنيات متطورة لخدمة الرؤية الفنية.
الإضاءة كشخصية درامية: لم تكن الإضاءة مجرد أداة للرؤية، فلقد كانت لغة سردية. نراها في المشهد الافتتاحي (النور الناعم والصوفي)، وفي مشهد منيرة (الضوء ثنائي اللون الرمزي)، وفي مشهد الرباعيات (الإضاءة الدافئة). كانت الإضاءة أداة فعالة في تقسيم المشاهد وتوجيه عاطفة المتفرج.
الخدع البصرية والسينوغرافيا: كان اختفاء منيرة المهدية في الظل خدعة بصرية مسرحية بامتياز، جمعت بين البساطة والتأثير القوي. كما أن استخدام الشاشات لعرض الأرشيف (في مشهد النشأة والرحلات) أنشأ حوارًا بين الماضي (الوثيقة) والحاضر (الأداء الحي).
الدمج بين الوسائط (Media Integration): في مشهد المجهود الحربي والسفرات، كان الدمج بين الفيديو الوثائقي والأداء الحي على الخشبة تجربة غامرة، تذكر بأسلوب “مسرح الصورة” لأريان منوشكين، حيث يصبح الجمهور شاهدًا على التاريخ لا متلقيًا له.
الأزياء والموسيقى: حرص العمل على الدقة التاريخية في الأزياء، بينما حافظت الألحان والمؤثرات الصوتية على أصالة صوت أم كلثوم من دون تشويه، مع تقديمها بتقنية عالية تجعلها حية وقريبة من أذن الجمهور المعاصر.
إشادة: تشريح الإبداع في بوتقة العمل الجماعي
يُعتبر هذا العمل تحفة تعيد تعريف “الجماعية الإبداعية” بامتياز، حيث تذوب الحدود بين المهام الفنية لتصبح عناصر عرض متساوية في الأهمية والتأثير. فالرؤية الإخراجية لأحمد فؤاد لم تكن مجرد توجيه للمشاهد، فبدت هندسة لـ”حيز درامي” يتحول إلى كائن حي ينبض بالذاكرة والموسيقى، مستخدمًا “السيمفونية البصرية” كمنهج إخراجي يوحد بين تقنيات السينما وروح المسرح.
أما النص الذي صاغه الدكتور مدحت العدل، فلم يكن سردًا سيريًا، متجاوزاً التقليدية بأن كان “نسيجًا استعاريًا” يحوّل الوقائع التاريخية إلى استعارات بصرية وسمعية، مقدماً اللغة كحامل للهوية وكجسر بين الأزمنة. لقد نجح في تحويل الكلمات إلى “منحوتات درامية” تتفاعل مع باقي العناصر.
النسيج الموسيقي الذي نسجه إيهاب عبد الواحد وخالد الكمار تجاوز مرحلة التوزيع ليشكل “هيكلاً عاطفياً” يًا للدراما، حيث أصبحت الموسيقى شخصية فاعلة تروي ما لا تقوله الكلمات. بينما حوّل عمرو باتريك الاستعراض إلى “قصيدة حركية” تعيد اكتشاف الجسد كأداة سردية، في حوار بصري مع إضاءة ياسر شعلان التي تجاوزت دورها الوظيفي لتصبح “رساماً للضوء” ينحت المشاعر على الخشبة.
أزياء ريم العدل كانت متحفاً متنقلاً يجسد دقة التاريخ وأناقة الفن، فيما أبدع فريق التنفيذ (نور سمير، نور محي، نور صالح) في تحويل المسرح إلى آلة زمنية تعيد تشكيل نفسها بلحظية مدهشة، بدعم من إشراف محمد مبروك الذي حول الأداءات الفردية إلى نسيج تمثيلي متماسك.
هذا التكامل النادر بين الرؤى جعل من العمل “نموذجاً مرجعياً” يثبت أن الإبداع الحقيقي لا يكمن في البراعة الفردية، إنما يتجلى في القدرة على صهر المواهب في بوتقة واحدة تخلق عالماً متكاملاً. لتقدم في النهاية تحفة لا تروي قصة أسطورة الغناء وحسب، إنما تصيغ أسطورة مسرحية جديدة بكل مقومات الخلود.
الخلاصة النقدية: من السيرة الذاتية إلى الأسطورة الإنسانية
مسرحية “أم كلثوم … دايبين في صوت الست” استعراض غنائي جميل، و توثيق تاريخي متخيل لطيف. إنها عمل فني متكامل الطاقات، نجح في:
1. تجاوز النموذج النمطي: بتحويلها من سيرة خطية إلى سلسلة من اللوحات الانطباعية التي تلامس الروح.
2. توظيف الحداثة لخدمة الأصالة: باستخدام أحدث التقنيات البصرية والسينوغرافيا لإحياء تراث فنّي عريق.
3. تعميق البعد الإنساني: من خلال مشاهد مثل مشهد السيدة عطيات، الذي يضيف طبقة من التعقيد النفسي والاجتماعي لقصة النجاح.
4. خلق حوار مع الذاكرة الجمعية: حيث تتحول أم كلثوم من أيقونة مصرية خالصة إلى رمز إنساني للتضحية والعطاء والخلود الفني.
الملاحظات النقدية المقدمة (كإطالة بعض المشاهد أو تعميق بعض العلاقات) لا تنفي قيمتها، بل تؤكد أنها عمل فني طموح يثير النقاش. المسرحية تثبت أن المسرح الموسيقي العربي قادر على المنافسة العالمية عندما يجمع بين المحتوى الأصيل، والرؤية الإخراجية الجريئة، والتنفيذ التقني المحترف. هي حقاً تجسيد لقول الخاتمة: “صوت لن يتكرر، لكنه يتجدد في كل زمن”، وهذا التجدد هو ما حققته هذه المسرحية ببراعة.
آن الصافي
أبوظبي
.


