في لوحة: بيتر بروجيل. الشهيرة “طابور العميان”.. فن الآخرين.- تقديم: محمد طهمازي.

بيتر بروجيل في لوحته الشهيرة “طابور العميان”.. فن الآخرين

محمد طهمازي Mohammed Tuhmazi

“لا أحد يرى الآخر بصدق إلا من خلال عيوب أنانيته. هكذا نرى بعضنا البعض في الحياة. الغرور والخوف والرغبة والمنافسة، كل هذه التشوهات في أنانيتنا، تُشكّل رؤيتنا للآخرين في علاقاتنا. أضف إلى هذه التشوهات في أنانيتنا التشوهات المقابلة في أنانيات الآخرين – تينيسي ويليامز”.

قد يأخذ بيتر بروجيل المتلقي في لوحته الشهيرة “طابور العميان” إلى حالة من الشفقة على الفئة البصيرة في أي مجتمع إنساني وكيف تتعكز على دروب الحياة في عالم الغابة، اللوحة التي انتهى منها في العام 1568، وهذا ما يؤكد عليه ويستفيض كل من كتب عنها حيث يتمثل فيها مجتمع فاقدي البصر من الذين لا حيلة لهم سوى أن يمسك الواحد منهم بثياب أو عصا الآخر ليستدل طريقه، لكن لو تساءلنا إن كان هذا الجانب الخاص من حياة فئة خاصة في المجتمعات الانسانية على مدى التاريخ البشري هو فعلا الدافع الحقيقي وراء قيام بروجيل برسم هذه اللوحة أم أن ثمة دافعًا آخر؟

يطرح البعض فرضية الدافع الديني وراء رسم بروجيل لهذه اللوحة مرجعين فكرتها لموعظة العميان التي وردت في الإنجيل (اُتْرُكُوهُمْ، هُمْ عُمْيَانٌ قَادَةُ عُمْيَانٍ. وَإِنْ كَانَ أَعْمَى يَقُودُ أَعْمَى يَسْقُطَانِ كِلاَهُمَا فِي حُفْرَةٍ… متي 15: 14)، خصوصا أن بروجيل رسمها ضمن مجموعة من اللوحات تتناول مواعظ وقصص الانجيل في أواخر حياته. وهذه الفرضية قابلة للأخذ بها ما لم نمعن البصر والبصيرة في معمارية اللوحة التي اعتمدها بروجيل وهي نسق مغاير لمعمار اللوحات الدينية التي تصور القصص والمواعظ. لقد نفذ اللوحة مثل سلم موسيقي وكأنهم سكارى يرقصون في آخر الليل مترنحين.

تُظهر اللوحة ديناميكية نفسية معقدة للجماعة. يقود الرجل الأول، الذي سقط بالفعل، ويتبعه خمسة آخرون، كل منهم معتمد على الذي أمامه. هذا التسلسل يخلق إحساساً حتمياً بالكارثة القادمة التي تصنعها التبعية والثقة العمياء.

يوضح كل رجل في الطابور درجة متفاوتة من الثقة والتبعية. الرجل الثاني، الذي يبدأ بالإحساس بالسقوط الوشيك، يحمل تعبيراً من الذعر، بينما لا يزال الرجال في المؤخرة يظهرون نوعاً من الطمأنينة الوهمية. هذه ديناميكية شاهدها علماء النفس الاجتماعي مثل ستانلي ميلغرام في تجاربه على الطاعة، حيث يميل الأفراد إلى التنازل عن مسؤوليتهم الشخصية لشخصية “مؤثرة” (القائد)، حتى عندما تقودهم إلى أفعال مؤذية أو مضرة.

يعتقد الأفراد في المجموعة أن وجود الآخرين يضفي شرعية على مسارهم، مما يخلق وهم الأمان. يرى المحللون، مثل جوزيف ليو كيرشنر في كتابه “فن بروغل المعياري”، أن هذه آلية دفاع نفسي ضد الخوف من المجهول. الجماعة هنا لا توفر الحماية، بل تعمق الخطر، مما يجعل السقوط الحتمي جماعياً وليس فردياً.

يرمز العميان إلى الفرد الذي فقد قدرته على الحكم المستقل. إنهم لا يتحققون من الطريق بأنفسهم, بل تنازلوا عن تلك المهمة لقائدهم فكان إيمانهم الأعمى به هو سبب هلاكهم. هذا يتوافق مع مفاهيم “تفكير الجماعة” التي درسها إيرفينغ جانييس، حيث يسعى أعضاء المجموعة للوعي والسلوك الجمعيين على حساب تقييم الواقع بشكل نقدي.

يتعثر القائد الأعمى فيسقط، ويسقط فوقه طابور طويل من العميان الواحد تلو الآخر، كل يتعثر بسابقه الذي كان يهتدي به حتى يسقطوا أخيراً في حفرة الموت التي لا خروج منها.

تعرض بروجيل كأي إنسان للضغوط والمحاذير التي تفرضها قيم المجتمعات ونفوذ طبقاته وخطوطها الحمر، فحاول تجنب الاحتكاك أو الاصطدام بها بأي شكل من الأشكال إلا في حالات معينة تتحكم بها الظروف وشخصية الفنان، لكن بروجيل لجأ هنا إلى التورية والترميز للتعبير عن القناعات والأفكار الملحة، التي لعبت وتلعب دورا محوريا في الوجود البشري ومصيره.

يقول إريك بيفيرناجي: “يمكن للفن أن يُخرجنا من عزلتنا. في الصمم سيصرخ ويصرخ، وفي العمى سيلفت انتباهنا، وفي الخدر سيهز عقولنا. إذا لم نشعر بأي شيء على الإطلاق واعتبرنا كل شيء أمرًا مسلمًا به، فإن الفن قادر على ركلنا في المؤخرة، وإيقاظ ضمائرنا، وجعلنا نعي.. هكذا يكون الفن”.


.

أخر المقالات

منكم وإليكم