ولد مطيع”: ترويض المجرم على العبودية المختارة
سعد القرش
آخر ما توقعته، في الفيلم البولندي «ولد مطيع»، أن يعتاد عربيد مراهق عبودية إجبارية تجعله كائنًا أليفًا. وبعد استطاعته النجاة من عبودية بالإكراه تصيبه عدوى استعباد الآخرين، حتى إنه يختار الرجوع إلى جلاديه، ويقدم أوراق اعتماده بحمل صديقته إليهم، في استلهام عصري لأسطورة مصاصي دماء ينقلون السموم إلى ضحاياهم؛ فيجعلونهم وحوشًا. لكنهم هنا، في فيلم المخرج البولندي جان كوماسا، أسرة ميسورة تقيم في بيت ريفي في ضواحي يوركشاير البريطانية، ويتّسم أفرادها بالأناقة، وطقوسهم اليومية لا تختلف عن غيرهم.بعد ليلة صاخبة مع رفاقه، يُختطف الفتى ذو العنف المفرط تومي (الممثل البريطاني أنسون بون). ثم يفيق فيجد نفسه في قبو مقيدًا بالسلاسل، والطوق الحديدي محكم حول عنقه. يثور على خاطفيه كريس (الممثل ستيفن جراهام) وزوجته كاثرين (الممثلة أندريا ريزبورو) اللذَان يريدان إخضاعه وإعادة تأهيله، لتحويله إلى «ولد مطيع»، في الفيلم الذي عُرض في القسم الرسمي خارج المسابقة بمهرجان القاهرة السينمائي الدولي، في دورته السادسة والأربعين (12 ـ 21 تشرين الثاني/ نوفمبر 2025).
عُرض الفيلم في القسم الرسمي خارج المسابقة بمهرجان القاهرة السينمائي الدولي، في دورته السادسة والأربعين
عُرض الفيلم في اليوم الأخير للمهرجان، ويكاد الجمهور والنقاد يكتفون بحظوظهم من الجرعات السينمائية؛ فلم ينل الفيلم اهتمامًا لائقًا، ولو بحوار مع صناعه مثل غيره من أفلام المهرجان. هذا عملٌ مهم يستحق ندوة موسعة، تنطلق من الفكرة إلى أبعاد ودوائر أكثر اتساعًا وتعقيدًا من حكاية فيلم عن فتى في سن التاسعة عشرة يرفض عملية الإخضاع، وفي الغضب ينقضّ على خاطفه الواقف على مسافة أبعد قليلًا من طول السلسلة؛ فلا يصل إليه. الفتى المشاغب يسبّ الرجل، ويهدد بسحق رأسه حين يتخلص من القيود؛ فيعذبه ويترك له الطعام، ثم يصعد إلى زوجته التي تعاني هشاشة جسدية ونفسية، ويسميها «الأميرة»، ويطمئنها بأن الأمور في القبو تحت السيطرة. ويستأنفان حياتهما الطبيعية. وفي هدوء أرستقراطي يتناولان الطعام، مع ابنهم جوناثان.هذا الهدوء الأرستقراطي يخفي اختلالًا نفسيًّا لدى كريس وكاثرين، ويشاركهما الاختلال ابنهما جوناثان البالغ من العمر عشر سنوات. ولا يجد الشاب المقيد وسيلة للفرار من سجن لا يجدي فيه الصراخ؛ فلن يسمعه أحد. ولا تساعده عاملة النظافة الأجنبية المجبرة على الصمت، وعدم البوح بما يجري في البيت. وتخفيفًا للأجواء الكافكاوية، يسعى الزوج تدريجيًّا إلى تحسين شروط الاستعباد، يمنحه شيئًا من التحرر داخل الدائرة، فيصمم في جدار السلم الصاعد من القبو مسارًا معدنيًّا لطرف سلسلة الطوق، ويتمكن الفتى من مجالستهم، وقراءة الكتب، ومشاهدة التلفزيون وهو يتسلى مثلهم بأكل الفشار، وتناوُل الطعام بأسلوب آدمي مع الإبقاء على السلسلة التي تلازمه، حتى في خروجه في نزهة مع الأسرة.في فيلم معظم مشاهده داخلية، يجيد مدير التصوير البولندي ميخال ديميك التدرج في التعبير عن توتر الشاب، من قتامة القبو إلى إضاءة متدرجة، تتوازى مع اندماج منضبط ومسيطَر عليه، حين يجالس أهل البيت، والإضاءة تشطر وجهه… تنير جهة اليسار، وتلقي ظلالًا جهة اليمين؛ فلا شيء محسومًا.
“المرضى من البشر وحوش، وضحايا السادية حين يصيرون ساديين أكثر وحشية من جلاديهم السابقين. نجح جان كوماسا في إخراج الوحش الكامن في النفوس”
يتأكد للزوجين من سلوك الشاب أنه صار «مطيعًا». لولا الطوق لبدا كأنه أحد أفراد الأسرة، أخًا لجوناثان. الشاب الذي كان عنيفًا يصير مستأنسًا. يتوقف عن الشغب، ويتحدث معهم بهدوء. فهل تنتهي الأمور بنجاح التجربة، وتحقُّق الغاية من أسر الشاب لتهذيبه؟ أمْ أن الساديين أرادوا أن يمتد الإخضاع إلى إصابته بعدوى اكتئاب يشمل المنزل، ويجعل الزوجة تبدو عليلة؟في لحظة يأسٍ من النجاة بحياتها، تسرّ عاملة النظافة إلى تومي بالرقم السري؛ فيتمكن من فتح الطوق. هو الآن حرٌّ في بيته، يزعم لأمه أنه كان في رحلة، مع صديقه جوناثان. جوناثان بالفعل أحبّ تومي. لكنه حبٌّ مرَضي كما سيظهر في المشهد الأخير، فلماذا لا ينساه تومي، ويمحو ذكريات الأسر؟ لعل الاعتياد أورثه الشعور بنوع من الولاء. كان بإمكان الخاطفين قتله والتخلص من جثته، ولن يعرف بأمره أحد بعد اختفاء عاملة النظافة. لعله الامتنان؛ لأنهم تركوه حيًّا. إلى هنا قد يكون سلوك الرهينة مفهومًا، لكنه يتجاوز متلازمة ستوكهولم. لا تتوقف مشاعر الشاب على التعاطف مع الخاطفين، وإنما يتمثل سلوكهم، ويعيد إنتاج الإجرام. باختياره يعود.
بوستر الفيلم
فالشاب يرجع إلى أصحابه في الملهى، ولا يحاول استعادة حياته السابقة، والنهم في ملذات فاتته، وتعويض فترة الحرمان من الحرية. بدلًا من ذلك يختار صديقته قربانًا. يخدعها بالخروج من السهرة، ويقترح عليها أن تقود سيارتها في طريق عرفه في مغامرة الفرار من الأسر. ويقوم بتخديرها، ثم يشعل النار في السيارة، ويحمل صديقته في ممر طويل ينتهي بباب البيت. على البعد يرحب به الزوجان ومعهما ابنهما جوناثان، تكسو وجوههم ابتسامات الناجين من الهلاك، الفائزين بغنيمة.كيف ينتصر آسر ساديٌّ لا يملك فلسفة يقنع بها الأسير؟ لماذا لا يسعى الأسير إلى الانتقام لإهانته؟ هل تنطفئ الروح ويجري استعبادها بعد السيطرة على الجسد؟ أسئلة مؤرّقة مفتوحة على إجابات لا يقدمها الفيلم. في كتابه «مقالة في العبودية المختارة» قال الفرنسي إيتيان دي لابويسيه، مبكرًا في القرن السادس عشر، إن الحيوانات تصرخ فينا: «عاشت الحرية! الكثير منها لا يقع في الأسر إلا مات… تأبى العيش بعد فقدان حريتها الطبيعية… لا تستسلم للأسر حين نقتنصها إلا بعد أن تظهر أشدّ المقاومة». والإنسان «لا ينساق إلى العبودية إلا عن أحد سبيلين: إما مكرهًا وإما مخدوعًا» (ترجمة مصطفى صفوان). وقد عومل الشاب العنيف معاملة حيوان. ثم كفّ عن التمرد والمقاومة مكرهًا، ليتفادى الإيذاء، وينعم بثمار الاستسلام. فمتى اُستلبت روحه؟سلوك الخاطفين هو الأولى بالعلاج والتقويم. مرضى بالاتفاق على إيذاء بريء ليس من مهامهم عقابه. هم لا يجرون تجربة علمية لاستئناس فتى طائش. حتى الصبي جوناثان يشارك في الجريمة، ويبتهج بصيد حمله إليهم الضحية السابق تومي، العائد بعد هروبه.سلوك المصابين بالاختلال النفسي يؤكد أن النفس البشرية معقّدة. يصعب أحيانًا التنبؤ بأفعال الإنسان، وبردود أفعاله. كما يصعب اتفاق بضعة أفراد على صيغة جريمة تستغرق وقتًا. قد يصحو ضمير أحدهم ويراجع نفسه. وهكذا يكون اتفاق الزوجين وابنهما الصغير جوناثان، في فيلم «ولد مطيع»، هبوطًا بالإنسان إلى ما هو دون الآدمية.أما الكائنات الأخرى، غير العاقلة، فهي أحادية البعد، لا تتمتع بذاكرة تراكم خبراتها، ولا تطور أداءها في القنص. أراقبُ الكواسر في الجو وآكلات اللحوم في البحار والغابات، وأشفق على ضحاياها من الطرائد. أتفهم حاجة الوحوش إلى إشباع غريزة الجوع، لكنها لا تتدنى فتتلذّذ بتعذيب الفرائس، ولا تمارس عليها أي نوع أو درجة من السادية. المرضى من البشر وحوش، وضحايا السادية حين يصيرون ساديين أكثر وحشية من جلاديهم السابقين.نجح جان كوماسا في إخراج الوحش الكامن في النفوس. حين تخلى الشاب تومي عن عنفه المفرط، ونجحت تجربة استئناسه، تحول إلى وحش، وهب نفسه للشيطان.
ضفة ثالثة
مجلة ايليت فوتو ارت


