عبر السينما المصرية.. كيف تم تناول الحياة في الجنوب المصري .- تقديم: حسام أبوالحسن..
كيف تم تناول الحياة في
الجنوب المصري عبر السينما المصرية
حسام أبوالحسن
مقدمة
يمتلئ الوعي الجمعي المصري بالعديد من الانطباعات عن جنوب مصر، بعضها إيجابي وأكثرها سلبي، وأكثر ما يسم هذه الانطباعات هو ابتعادها عن حقيقة الحال، وميلها إلى تعميم بعض النماذج، وتحيزها لوجهات نظر مسبقة ساهمت في تشكيلها دوائر السلطة وبعض النخب المثقفة، وقد لعبت الوسائط المرئية دوراً مهماً في ترسيخ هذه الانطباعات، وخاصة مع ظهور التلفزيون في الستينيات ودخوله إلى كل بيت، بينما كان للسينما نصيبها من هذه الغلة، وإن لم يحل هذا دون ظهور بعض الأعمال المنصفة التي عنيت بتقديم صورة صادقة للإنسان والمجتمع الجنوبي.
يقدم المقال قراءة لثلاثة من أهم إنتاجات السينما المصرية، من دون الخوض في تحليل الأفلام على نحو مفصّل، بقدر ما تسلط الضوء على الأبعاد الفكرية لتعاطي صناعها مع الجنوب، وكيف ساهمت هذه الأفكار في صياغة رؤاهم الفنية!
المومياء 1969 – شادي عبدالسلام
يميل الكثير من النقاد إلى اعتباره أعظم فيلم مصري، وقد حاز احتفاء بعض السينمائيين الغربيين ومنهم: روسيليني وسكورسيزي، فهل استحق هذه المكانة؟
بنى المخرج أحداث فيلمه على واقعة تاريخية في أواخر القرن 19، أبطالها أفراد من “عشيرة عبد الرسول” المنتمية لقبيلة “الحربات” التي اعتاشت من تجارة الآثار وتهريبها وفقا للواقعة، ويتتبع الفيلم رحلة الابن ونيس الذي أرشد البعثة الأثرية إلى مخبأ مومياوات الدير البحري.
لدى المخرج تحيزات مسبقة ولم يتورع عن إظهارها، وكذلك لم يتورع عن إظهار رؤيته المتعالية، فيحتفي بالأثري الفرنسي جاستون ماسبيرو وأتباعه من الأفندية المصريين، على الرغم من أن المثبت تاريخيا هو معارضة ماسبيرو لتعيين المصريين في مصلحة الآثار من الأساس، وقيامه بتعذيب أبناء عبدالرسول بغرض الحصول على اعترافاتهم!
وعلى صعيد آخر فإنه يقدّم أهل الجنوب بصورة شديدة السلبية: وجوه متجهمة وملابس قاتمة والكل يعتاش من السرقة والنهب، وفي مشهد يحمل دلالة ما، يصوّر المخرج اعتداء أفراد القبيلة على الشاب الغريب القادم من “الوادي”، ووجه الغرابة هو ارتداء الشاب لجلباب أبيض ووقوفه وسط هالة من ضوء الشمس، وكأنه منبع الحقيقة أو مجاز عن الفلاح المصري، والمعتدون عليه هم أشخاص فاقدو الانتماء. وفي مشهد آخر يتحدث أحد الضباط عن القبيلة ويصف أبناءها بالرعاة وأنهم منفصلون تماماً عن أهل الوادي، ولا أدري هل تعتبر هذه التلميحات أدلة على الوطنية الشديدة أم دعوة لحرب أهلية!
وبعيداً عن دلالة هذه التلميحات فإنها تنم عن جهل المخرج الشديد بالتركيبة الاجتماعية للمكان الذي يصوره، فالغالبية العظمى من أهل الجنوب تفتخر بنسبها العربي.
وهذا النوع من الخطابات الفكرية وما يحمله من كراهية ليس بغريب على النخبة المثقفة التي تشكّلت في زمن الاستعمار الذي أجاد توظيف هذه النعرات الارتكاسية بغرض تشتيت الانتباه عن الأزمات الفعلية.
وللمخرج خلفية معمارية وتشكيلية لا تخطئها العين بحكم عمله الطويل بتصميم الملابس والديكورات في أفلام مصرية وأوروبية، ويحسب له دقته الشديدة في محاكاة شكل المومياوات، والمشهد عنده يعد تمثلاً لجداريات المعابد.
لا يعيب المخرج السينمائي أن يتأثر بالفنون التشكيلية بشرط الحفاظ على أساسيات الشكل السينمائي من مونتاج وتحريك للعناصر حتى داخل اللقطات الثابتة، وألا يكتفي بمجرد تحريك ومحاكاة الجدارية أو اللوحة.
يفتقر الفيلم إلى الحد الأدنى من العفوية السينمائية، ويغلب على أداء الممثلين التصلب والجمود وقد بدا هذا واضحاً في حركاتهم ووقفاتهم وحتى طريقة الإلقاء وتحديقهم الغريب في الفراغ وكأنهم تماثيل عادت إليها الحياة بتعبير مفتش الآثار أحمد كمال. ولا يكلّف المخرج نفسه عناء الالتفات إلى أهل الجنوب في حياتهم اليومية، مما يخلق شعوراً بانعدام قيمتهم لولا وجود الآثار في أرضهم، كما يوجه لومه إلى العصبية والجشع متناسياً الأزمات التي مرت على أهل الجنوب من فقر وإهمال وإقطاع، ومتجاهلاً ما فعله المركز بالهامش. وإمعاناً في تعاليه فإنه يطالب الهامش بالخضوع، فالآثار أهم وأبقى من البشر!
الطوق والإسورة 1986 – خيري بشارة
انتمى القاص يحيي الطاهر عبدالله إلى جيل الستينيات في القصة المصرية، وقد لُقِّب بـ “شاعر القصة القصيرة “، وكان يحفظ قصصه عن ظهر قلب ويلقيها كما الشعراء، وهو ابن قرية “الكرنك” بالأقصر، وقد أجاد التعبير عن بيئته، فاحتفى بجمالها، ولم يمنعه الاحتفاء من تحليل أزماتها وعيوبها، وقد تجلت هذه الأمور بشكل واضح في روايته القصيرة “الطوق والإسورة” التي يصوّر فيها مجتمع قريته من خلال تتبعه لثلاثة أجيال متعاقبة.
كتب المخرج خيري بشارة المعالجة والسيناريو بالاشتراك مع الدكتور يحيى عزمي (الأستاذ بمعهد السينما)، بينما كتب الحوار الشاعر الكبير عبدالرحمن الأبنودي، فهل كان الفيلم مخلصاً لروح الأصل الأدبي ومحتواه الفكري؟
“كلما اتسعت الرؤية ضاقت العبارة” – النفري
يمتاز أسلوب الطاهر باستخدام الجمل القصيرة الموجزة مع توظيف مكثف للصور المشبعة بالرموز، وأسلوبه هو صورة لفكره ومرآة لروحه الصوفية العاشقة للحياة والجمال واحتكاكها بخشونة الواقع وصعوبة تغييره، وقد وفق مدير التصوير طارق التلمساني في النفاذ إلى هذه الروح عبر استخدام اللقطات المقرَّبة في تصوير الأشياء مع التحريك الناعم للكاميرا، وكأنه حلم طفولي عذب لا يعكر صفوه سوى قطعات المونتاج المفاجئة التي تحيل إلى مشاهد من الواقع الأليم كما في افتتاحية الفيلم التي تبدأ بغناء فهيمة المرح أثناء تحضيرها للخبز والذي تقطعه تأوهات الأب العاجز. ويحسب للمخرج لمسته التسجيلية المميزة في تصوير الحياة اليومية لأهل قرية “الكرنك” من دون رتوش أو تنميق مع التقاطه للتفاصيل الشعرية الممثلة في حركات الحيوان والطير، وتوظيفه الجيد لمؤثرات الإضاءة الصناعية (مشهد قتل فرحانة كمثال) وقد أفاد من دراسته في “معهد لودز” في العصر الذهبي للسينما البولندية، بالإضافة إلى إدراته المدروسة للممثلين وعلى رأسهم الممثلة فردوس عبدالحميد التي عرفت بمبالغاتها، إلا أنها قدّمت أفضل أدوارها في هذا الفيلم.
لم يكن الأصل الأدبي غنياً بالأحداث بقدر غناه بالصور والأمثال، فلم يتجاوز في طوله 62 صفحة، إلا أن ذلك قارب الساعتين في الفيلم، نتيجة اعتماد كاتبي السيناريو على نص آخر للطاهر بعنوان “طاحونة الشيخ موسى” لا يتجاوز 6 صفحات، ولكنه ينال مساحة درامية لها وزنها، وكان لهذا الخط الدرامي الدخيل تأثيره السلبي على إيقاع الفيلم وخطابه، موقعاً إياه في فخ التنميط والابتذال نتيجة مبالغة المخرج في انتقاده لفكرة الخرافة بصورة أقرب للتجني، فهل يعقل أن تجتمع قرية بأكملها لمجرد قذف الطاحونة وصاحبيها بالحجارة؟ لا بل إن هذا المشهد لم يكتبه الطاهر في قصته من الأساس!
وكذلك مثّلت شخصية محمد أفندي (جسدها المطرب محمد منير) خياراً جمالياً سيئاً أضرَّ بالفيلم أكثر مما أفاده، فتراه يشدو بألحان متنوعة من التراث الصعيدي والنوبي في إهمال تام لسياق الشخصية الاجتماعي وخصوصية المكان وزمن الحدث إلى درجة تدفع للتساؤل: هل هذا مثقف من حقبة الثلاثينيات أم هو أحدث ظاهرة فنية عرفها مثقفو وسط البلد (القاهرة) وقت تنفيذ الفيلم؟
عرق البلح 1998 – رضوان الكاشف
يختلف هذا العمل عن المثالين السابقين في كون مخرجه ينتمي إلى قرية من الصعيد الجواني وهي قرية “كوم اشقاو” بمحافظة سوهاج رغم نشأته القاهرية، وقد أفاد من دراسته للفلسفة ثم السينما، وعمله مساعدا لكبار صناع السينما المصرية، بالإضافة إلى انحيازه الدائم للطبقات المهمشة وقد كانت مشاركته في انتفاضة يناير 77 شاهدة على ذلك.
في هذا العمل يستكمل المخرج ما بدأه في مشروع تخرجه “الجنوبية”، ويكرر استخدامه لأسلوب النقد الذاتي الذي استخدمه في عمله السابق “ليه يا بنفسج”، ولكنه يبتعد هنا عن الواقعية الاجتماعية الصارمة وينفتح على آفاق الواقعية السحرية.
يرتكز الفيلم في بدايته على مدخل حكائي يُلقى على مسامع الحفيد العائد من الغربة إلى قريته المهجورة بحثاً عن جذوره. وهذه الافتتاحية مبنية على سياق واقعي وتاريخي، وهو خلو بعض القرى الصعيدية من الرجال في حقبتي السبعينيات والثمانينات لعدة أسباب ومنها: الثأر والسعي لكسب الرزق.
“تبدو لي الحياة حركة مستمرة. ففي كل موكب وفي كل مظاهرة ثمة حركة طول الوقت، وهي حركة فيزيقية وفلسفية أيضاً: فالتناقض أساسه الحركة، حركة الأفكار، حركة الجماهير.” – المخرج المجري ميكلوس يانشو
يتخذ الفيلم قالباً شكلانياً مميزاً هو”العدودة” وهي ممارسة رثائية شائعة تقوم بها النساء، وتسير أحداث الفيلم وفق وتيرة أقرب ما تكون لمفهوم “مسطح المحايثة” الذي ابتدعه جيل دولوز، فالصورة واقعية مفرطة في واقعيتها ومحايثتها لدرجة الألم، ولكنها منفتحة في ذات الآن على ما هو أسطوري ومفارق، ويطرح المخرج بعضاً من أفكاره في الإهداء المكتوب في التترات “إلى الجنوبي المطارد في خبيئته/سلاماً إليك يوم تموت وسلاماً إليك يوم تبعث حياً”، فهو تحية إلى كل جنوبي مغترب عن بلاده، ورثاء لكل قيمة أهدرها الدهر ونوائبه.
“موت شخص عجوز يوازي حريق مكتبة” – المؤرخ المالي أمادو هامباتي با
يمثل الجد الكبير الصامت تجسيداً للتاريخ الذي يوشك أن يندثر، فهو مؤسس النجع ولكنه يصبح عاجزاً عن فعل أي شيء، ويمثل الحفيد (أحمد) جيل الشباب العفوي الحالم والمتمسك بجذوره، فيرفض السفر مع باقي الرجال ويبقي بالنجع.
يشهد الفيلم احتفاءً نادراً في السينما المصرية بالعنصر الإفريقي وحضوره في التكوين الجنوبي ممثلاً في شخصية زيد الخير (جسدتها الممثلة السودانية فائزة عمسيب) فهي رفيقة الجد الكبير، وحامية التراث وراوية الحكاية وصانعة عرق البلح.
وعرق البلح هنا ليس مجرد مشروب روحاني أو شفائي، ولكنه المجاز عن القيمة الخالدة، وهو أيضاً مأثرة النجع الحقيقية في مقابل الوهم الذي اغترب الرجال سعياً إليه، وهو تحقيق الثروة المادية.
والنخلة العالية هي موطن الظل ومنقذة الإنسان من حر الشمس، وهي الخالة أو العمة في التراث العربي ومنها يستمد النجع اسمه. يعود الرجال من غربتهم وهم يجرون أذيال الخيبة، ثم يقتلون أحمد من خلال قطع النخلة أثناء صعوده لها، فتكتمل المأساة.
يعاب على الفيلم اختيار الممثلة شريهان في دور (سلمى)، فهي لم تكن مناسبة من الناحية العمرية على الرغم من موهبتها الاستعراضية، بالإضافة إلى ابتعاد ملامحها عن ملامح الأب والأم، وكذلك يعاب عليه ضعف تقديمه لبعض الخطوط الفرعية.
حسام أبوالحسن
مخرج وكاتب من مصر