دور المنصات الرقمية في تكون ذائقة جمالية وادبية خاصة

 المنصات الرقمية وتشكيل الذائقة الأدبية
 ليندا نصار 
مع انتشار المنصات الرقمية التي تقترح كتبًا وتوجّه القراءة، يبدو أن تشكيل الذائقة الأدبية بات من وظيفة الخوارزميات التي فرضت تحوّلات كبيرة في عالم الأدب. فما رأي الكاتب العربي بهذه التحولات التي مست ذائقة الجمهور؟ إلامَ أدت هذه التحولات؟ وإلى أي مدى يمكننا الحديث عن تسليع الأدب وتسطيحه خصوصًا وأنه يتأثر بعملية القراءة؟انطلاقًا من هذه الإشكاليات وسواها، نفتح هنا تحقيقًا موسعًا، تشارك فيه مجموعة من الباحثين الأكاديميين والكتّاب المبدعين
مع انتشار المنصات الرقمية التي تقترح
كتبًا وتوجّه القراءة، يبدو أن تشكيل الذائقة الأدبية بات من وظيفة الخوارزميات التي فرضت تحوّلات كبيرة في عالم الأدب. فما رأي الكاتب العربي بهذه التحولات التي مست ذائقة الجمهور؟ إلامَ أدت هذه التحولات؟ وإلى أي مدى يمكننا الحديث عن تسليع الأدب وتسطيحه خصوصًا وأنه يتأثر بعملية القراءة؟انطلاقًا من هذه الإشكاليات وسواها، نفتح هنا تحقيقًا موسعًا، تشارك فيه مجموعة من الباحثين الأكاديميين والكتّاب المبدعين لمعرفة آرائهم وأفكارهم، بناءً على تجاربهم الخاصة في العالم الرقمي الأدبي.
هدى عيد (أكاديمية وكاتبة من لبنان)
بتنا نحيا في عالم سريع التحول تمكنت الرقمنة فيه من خلال خلق نواميسها الخاصة بها وفرضها على البشر؛ ولعل الأدب هو الفن الإبداعي الأكثر تأثرًا في هذا المساق، فقارئه صار يعاني من فقْد عامل الحرية، ومن القدرة الصافية على الانصياع إلى ذائقته الأدبية المطبوعة أو المكتسبة، والتي توجّه عادةً مزاجه القرائي، فتقوده إلى ما يحب ويشتهي، وذلك بسبب الخوارزميات التي استحالت الفاعل الرئيسي في تأطير قراءاته، وفي إعادة تشكيل ذائقته.لقد فرضت المنصات الرقمية تحولًا عميقًا في علاقة الجمهور بالأدب، وهو تحول يتجاوز طبيعته التقنية الحادثة ليدخل في صياغة البنية الثقافية العميقة التي تحكم علاقة القارئ بالنص، حيث تمكنت من نقل “سلطة” القول النقدي، والكفاءة على إصدار الأحكام الأدبية من الناقد المختص، والمؤسسة التعليمية الناظمة “الجامعة”، إلى مجموعة من الأنظمة الحسابية القائمة على بيانات المستخدمين، وطرائق استهلاكهم. تمكن هذا التحول من حرف الذائقة الأدبية التي يُفترض بها أن تكون نتاج تفاعل مع التراث، أو ثمرة تراكم معرفي نقدي يلتحم بالميل الطبيعي لدى القارئ العليم، لترتبط بفجاجة، بما تطرحه عليها المنصات من نصوص (خضعت لتفضيلات سابقة، أو لملاحقة ما راج منها في السوق عبر الإعلان)، ما أدخل هذا القارئ/ الناقد في حلقة من التكرار والانغلاق ضمن دائرة من النصوص المتشابهة، وفي ذلك تقليص حقيقي لفُرص الاحتكاك بتجارب أدبية جديدة، وللانفتاح على أنماط إبداعية مغايرة.كذلك قادت هذه التحولات إلى نوع من تسليع الأدب، يخضع فيه هذا الأخير لقانون العرض والطلب، متجاوزًا كونه منتجًا معرفيًا جماليًا. فالخوارزميات تُعلي من شأن الكتاب الأكثر مبيعًا وتداولًا، وهذا يفسر ظاهرة هيمنة النصوص السهلة، أو ذات الطابع الترفيهي على حساب الأخرى العميقة أو التجريبية، ما يضعنا أمام خطر تسطيح الأدب، واختزال وظيفته بالقدرة على الإمتاع السريع، بعيدًا من الفعل التأملي النقدي، والتجربة الإنسانية الصادقة.بالإضافة إلى ذلك، أفرزت هذه الظاهرة “الجمهور الجديد” الذي قامت “بتصنيعه” في الآونة الأخيرة، والذي يتعامل مع الأدب بحسبانه محتوى رقميًا قابلًا للاستهلاك السريع، لا بوصفه تجربة وجودية عميقة تنقل نبض الإنسان وحقيقته، وهو واقع يطرح إشكالية تتمثل في ضرورة إعادة النظر في معايير الإنتاج الأدبي، وفي حتمية التفكر في مستقبل النقد الأدبي، ومدى قدرته على مواجهة هيمنة الخوارزميات، ومقارعة التحدي المتوالي لوجوده عبر ما يطرحه الذكاء الاصطناعي من احتمالات لا ندرك مقدار تماديها مستقبلًا.على أن ثمة جانبًا إيجابيًا حملته هذه المنصات، تجلى بتوفيرها فرصًا حقيقية للوصول إلى المنتج الأدبي ومبدعيه، متجاوزة في ذلك احتكار المؤسسات التقليدية وتوجهاتها، لكن التحدي الأكبر المطروح يتمثل في ضرورة استعادة النقد المنهجي المسؤول دوره الحقيقي، في محاولة لإبقاء الأدب فضاءً للمعنى، بعيدًا من التسليع والتعمية.
دورين نصر (أكاديمية وشاعرة من لبنان)
لم تَعُد القراءة اليوم فعلًا هادئًا ينشأ من شغف داخلي، كما كانت في زمن الورق والعزلة الطويلة مع الكتاب، بل صارت محاطة بقوائم جاهزة تُعرض علينا عند الطلب. يدخل القارئ إلى النص وهو محاط بسجل من اختيارات ماضية، وكأن ما سيقرؤه لاحقًا يُمهَّد له سلفًا، لا باعتباره مغامرة جديدة، بل كأنه امتداد لمعرفة سابقة.بهذا المعنى، لم تعد الذائقة الأدبية تُبنى فقط عبر التراكم البطيء للتجربة الشخصية، والاحتكاك النقدي، وتنوع القراءات، بل باتت، في كثير من الأحيان، ثمرة ترشيحات متتالية تصنعها خوارزميات تعرف عنا الكثير: ماذا نحب؟ ومتى نمل؟ وكم نصبر على قراءة كتاب؟ تُقدَّم إلينا النصوص التي تشبهنا، وتُستبعد تلك التي قد تُربكنا أو تخرجنا من دائرة المألوف. هكذا تتقلص مسافة الدهشة، وما عاد بالإمكان كسر أفق التوقع عند المتلقي.ومع ذلك لا يمكن، في المقابل، إنكار الوجه المضيء لهذا التحول؛ فالمنصات الرقمية وسّعت الوصول إلى الكتاب، وفتحت المجال لأصوات جديدة لم تكن لتجد طريقها بسهولة إلى القارئ. صار بالإمكان أن يُقرأ كثيرون، وأن تتجاور نصوص من عوالم مختلفة على شاشة واحدة. هذه ديمقراطية ثقافية لا يمكن التقليل من شأنها.غير أن المفارقة تكمن في أن منطق الانتشار لا يسير دائمًا مع منطق القيمة. ما يُروّج له أكثر ليس بالضرورة الأعمق ولا الأجرأ، بل الأكثر قابلية للاستهلاك السريع. يتحول الكتاب إلى “محتوى”، ويُقاس نجاحه بعدد النقرات والتفاعلات، لا بقدرته على تعقيد الأسئلة أو زعزعة القناعات. ومع هذا الإيقاع السريع، يتعرض الأدب لضغط متواصل نحو الاختصار، والتبسيط، والوضوح الفوري، على حساب المساحات التي تقوم عليها التجربة الإبداعية في جوهرها.ومع دخول الذكاء الاصطناعي إلى مشهد الكتابة، تتضاعف الأسئلة: أين يقف المؤلف؟ وأين تبدأ الآلة؟ وما الذي يبقى من فرادة الصوت الإنساني حين تصبح المحاكاة قادرة على إنتاج نصوص شبيهة بالإبداع؟ المشكلة ليست في الأداة، بل في تحولها إلى أنموذج يُقاس عليه الأدب ومعاييره.في النهاية، تبدو الذائقة الأدبية اليوم معلقة بين إمكانات هائلة للانفتاح، ومخاطر حقيقية من التوجيه الصامت. ليس المطلوب أن نخاصم التقنية، بل أن نعيد إلى القراءة معناها الأساسي: فعلُ اختيار، ومساحةُ حرية، ومغامرةٌ لا تُقترح علينا سلفًا، بل نذهب إليها بأنفسنا.من هنا، حين يصلنا الكتاب عبر خوارزميات المنصات، هل يبقى فعلُ القراءة اختيارًا حرًا، أو يصبح استجابة لمسارٍ مُعدّ سلفًا؟
عبد الحليم حمود (كاتب وناشر من لبنان)
في هذا السؤال تتقدم الذائقة الأدبية كجسدٍ تتحرك داخله قوى غير مرئية، قوى تُعيد تنظيم الحقل الرمزي الذي تشكله الكلمات. المنصات الرقمية تُشبه حقلًا واسعًا من «آليات التوجيه» التي تعمل داخلنا بقدر ما تعمل حولنا. كل توصية كتاب، كل لائحة مقترحة، كل خوارزمية تُعيد ترتيب علاقتنا بالنص، تُعيد رسم حدود ما يُسمح ببلوغه، وما يُمنح مكانًا أعلى في سلم التفضيل.في هذا المشهد، القارئ لا يعود فردًا حرًا يسير إلى الكتاب، بل يتحول إلى نقطة داخل شبكة، تتحرك داخلها رغبته بخطوات محسوبة. الذائقة تُصاغ عبر تدفق مستمر من الإشارات، وتُعاد هندستها عبر عمليات دقيقة تُنتج «قيمة» للنص وفق معايير انتشار وكمية تفاعل وزمن زجاجي سريع. هكذا يتغير الأدب من مجال ينمو ببطء داخل تجارب القارئ إلى منتج يدخل في اقتصاد الخوارزميات.هذا التحول أنتج جمهورًا واسعًا يقترب من النص الإبداعي عبر بوابة ميسرة، جمهورًا يحمل قدرة على بلوغ نصوص بعيدة. الجسور الرقمية منحت الأدب أجنحة جديدة، ومساحات كانت بعيدة عن دور النشر والصحف. مع ذلك، تحولت هذه الجسور إلى قنوات ضبط، تُنظم حركة القراءة وتوجيهها، وتعيد تعريف «القيمة» الأدبية من خلال سرعة الانتشار لا من خلال عمق التجربة.في هذا المناخ، الكاتب يتحول من «فاعل أوحد» إلى صوت داخل جوقة واسعة. الجميع يكتب، والجميع يختبر فعل التأليف. وتظهر طبقة جديدة من الممارسين، يختبرون النص عبر أدوات الذكاء الاصطناعي، أدوات تتيح إنتاجًا سريعًا يقترب من الكتابة، ويستفيد من بنية جاهزة تتقدم كنظام دعم لا كقوة إبداعية.هنا يتقدم سؤال جوهري: الأدب يتحرك داخل دائرة تجمع جمهورًا أكبر، ويمنح صوتًا لعدد واسع من الكتّاب المحتملين، ويمنح انفتاحًا على نصوص بعيدة. في الوقت نفسه، يندرج داخل اقتصاد رمزي يُعيد صوغه كمنتج قابل للتبادل، وتنتقل جودة النص من عمق التجربة إلى سرعة التداول.هكذا تُعيد المنصات تشكيل الأدب عبر قوتين معًا: قوة توسع المجال وتفتح الإمكان، وقوة تضبط الإيقاع وترسم حدود القيمة. وفي هذه الحركة المزدوجة يولد أدب جديد، أدب يحمل خصوبة الإنترنت وإيقاعه، ويكشف في داخله بنية السلطة التي تُعيد رسم علاقتنا بالقراءة والكتابة.
سليمان المعمري (إعلامي وكاتب من عُمان)
دائمًا ما تمر علاقة القارئ بالكتاب بمنعطفات، أو منعرجات بين فترة وأخرى، ونحن نعيش اليوم أحد هذه المنعطفات المهمة: المنصات الرقمية التي تقترح الكتب وتشكل قوائم القراءة، ولا أظنني مبالغًا إن قلت إنها تشكل أيضًا ذائقة القراءة، لأنها تتحكم بشكل بارد في ما يظهر أولًا، وما يُدفَع إلى الواجهة، وما يظل في الظل.مثل أي تقدم تكنولوجي له جانب إيجابي وآخر سلبي، لكن مشكلة هذه المنصات أن هذين الجانبين فيها متضادان، بشكل لا يمكن أن نقول معه إن هذا التضاد مفيد للقارئ. فالجانب الإيجابي أن هذه المنصات الرقمية وسعت جمهور القراءة، وسهّلت وصول شرائح واسعة من الناس إلى الكتب، وقرّبت نصوصًا كانت على الأرجح ستظل حبيسة الرفوف لو لم يسلّط عليها ضوء الخوارزميات. الآن صار بمقدوري وأنا في مسقط، وبضغطة زر، أن أطّلع على ما يقرأه قارئ في المغرب، أو آخر في باريس. ليس هذا فحسب؛ بل أن نتناقش نحن الثلاثة مع عشرات غيرنا حول كتاب واحد يكون “ترند القراءة” في وقت ما. ولاحظي أن مصطلح “ترند القراءة” ما كان ليظهر أصلًا لولا هذه المنصات. يمكن أن يتحدث العالم كله في الوقت نفسه عن كتاب واحد. وعلى أية حال هذا ليس سيئًا، ما دام الكتاب جيدًا ويستحق القراءة والمناقشة. لكن المشكلة في الوجه الآخر من العملة؛ وأعني به الجانب السلبي لانتشار المنصات القرائية. فالخوارزميات لا تشتغل بقيم جمالية أو أسئلة فكرية، بل بمعطيات باردة: عدد المشاهدات، وسرعة التفاعل واللايكات، ومدة البقاء على الصفحة، وقابلية المحتوى للانتشار. ومع الوقت، يتشكل نوع مما يمكن أن نسميه “الدائرة المغلقة للقراءة”: ما تروّج له المنصة يزداد قراءة، وما يزداد قراءة تعتبره المنصة دليلًا على أنه “مرغوب فيه”، فتضاعف الترويج له. وهكذا ينزاح مركز الذائقة تدريجيًا نحو الأعمال الأسهل استهلاكًا، والأكثر قابلية للاقتباس والاقتناص في جملة لامعة أو مقطع قصير يصلح للمنصات، على حساب الأعمال التي تتطلب صبرًا وتأملًا وقراءة بطيئة ومتمهلة. هنا يمكن الحديث عمّا تفضلتِ بتسميته “تسليع الأدب”، أي أن يتحول النص الأدبي إلى “مُنتَج” مُقاس بمعايير السوق فقط: عدد النسخ، والترند، وقوائم الأكثر مبيعًا، وتتراجع المعايير الفنية والفكرية للنصوص لأنها لا تجد لها مكانًا في هذا السوق. ولكي لا أُفهم خطأ أقول إنني لستُ ضد وجود “أدب جماهيري” أو “قراءة خفيفة”؛ فهذا موجود منذ زمن بعيد، وهو أمر مشروع وطبيعي. لكن أن تصبح هذه الصورة الواحدة هي المعيار الغالب للقراءة؛ هنا تكمن الخطورة، أن يُعاد تشكيل الذائقة بحيث ترى في كل نص لا ينسجم مع منطق السرعة والترند نصًا “ثقيلًا” أو “غير مناسب للعصر”.أما التسطيح، فهو أثر جانبي لا يمكن تفاديه للأسف. حين يُختزل الكتاب في مراجعة من دقيقة، أو في منشور على فيسبوك أو إكس يقتبس جملة واحدة فقط، قد تكون جميلة وقابلة للاقتباس، لكنها لا تقول أي شيء عن عمق الكتاب. هذا طبعًا عدا الأحكام الجاهزة التي يطلقها بعض مروجي الكتب ممن لا يقرؤون، وبعض الكليشيهات المثيرة للسخرية من قبيل: “هذا الكتاب سيغير حياتك”، أو “هذا أحسن كتاب قرأته في حياتي”.مع ذلك، لا أرى أن الصورة قاتمة في المطلق. الخوارزمية أداة يمكن توجيهها، والمنصات يمكن أن تُستخدم أيضًا في خلق فضاءات قراءة أكثر وعيًا: مثلًا أن تكون هناك نوادٍ رقمية تناقش الكتب بعمق، ونقاد يستثمرون الوسيط الجديد لتبسيط المناهج النقدية للقارئ العام، ومؤسسات ثقافية تحسن استعمال هذه الأدوات للترويج لأعمال مختلفة لا تدخل تلقائيًا في منطق السوق. أي أن النقطة الجوهرية هنا ليست التقنية، بل الوعي الذي يديرها.
د. مهى جرجور (أكاديمية وكاتبة من لبنان)
في خضم التحولات الرقمية المتسارعة، يجد الكاتب العربي نفسه في مواجهة واقع جديد يفرض عليه الاندماج في عوالم لم تكن يومًا تنتمي إلى الأدب وأنواعه وغاياته، واقع تؤثر في تشكيله منصات النشر الإلكترونية التي تتغذى على تحليل السلوك القرائي، وتوظف – بنسبة متفاوتة – أنظمة ذكية، وواجهات تفاعلية، وتعتمد الترويج المدفوع، لصنع ما يُعرف باقتصاد الانتباه؛ ذلك الاقتصاد الذي غدا عملة نادرة تُنتَج عبر إبقاء القارئ في حالة “البقاء داخل المنصة” لأطول زمن ممكن.ولتحقيق هذا الهدف يمكن أن يُرفع كتاب متوسط إلى مصاف الأعلى قراءة، وتُقصى أعمال فكرية عميقة وتحرم فرصة الظهور. وبذلك، يصبح النجاح القرائي مرتبطًا بعدد النقرات والانطباعات السريعة بغض النظر عن قيمة الكتاب الفكرية أو الأدبية. وينسجم، ما سبق، تمامًا مع روح ما بعد الحداثة التي تحوّل المعرفة إلى وحدات صغيرة قابلة للاستهلاك السريع، وتحوّل القارئ إلى مستهلك يبحث عن المتعة الفورية.من الواضح أن اهتمام المنصات لا ينصب على الأدب بحد ذاته، وإنما تتعامل معه على أنه سلعة للجذب، لرفع نسبة التفاعل، وأعداد المشاركين، ومنافسة الفيديوهات… لذلك تختار منه ما يحقق لها هذا الشرط المادي.وبما أن هذا الأمر سيتزايد يومًا بعد يوم، ما سيسمح للبصري أن يغلب المكتوب الورقي، ولمنطق السوق الرقمية الهيمنة. وهذا ما حدث بالفعل مع تراجع أجناس أدبية مثل المسرح والرواية لصالح السرد السريع.من هنا، على الكاتب الحقيقي العمل على زيادة وعيه بالمنصات وآليات عملها، وأن يطّلع على تجارب النشر الرقمي وتقارير صناعة المحتوى، ليتمكن من الإفادة من هذه المنصات بدلًا من الابتعاد منها، ويستعيد المبادرة التي تكاد تفلت منه: لأن الكتابة تكتمل بالقراءة.وتاليًا، عليه العمل على فهم الآليات المستخدمة في هذا الإطار، واستيعاب المنطق الاقتصادي الذي يجعل المنصة تروّج للمحتوى الأسرع استهلاكًا مثل: الاقتباسات والخواطر والملخصات السريعة والسرد السريع والمحتوى المرئي والمواد المثيرة للجدل… وتعميق وعيه عبر متابعة الدراسات النفسية التي تشرح كيفية تلاعب الواجهات بعادات القراءة.بات ما تقدم مهمة أساسية من مهام التأليف الأدبي، وإن إقصاء الكتاب أنفسهم عن هذه المهمة قد يسهم، بشكل غير مباشر، في زيادة تسطيح النصوص التي يطلق عليها اسم “أدب”. من هنا، فنحن نرى أن الهوة تتسع بين الأدباء المعاصرين ومروجي الكتب عبر المنصات… ومهام وأهداف كل منهم. لذلك، لا بد للأدباء من الإفادة من هذه المنصات للترويج لأعمالهم بأشكال مختلفة مرئية تتناسب شروطها مع ما تشجع عليه سياسات هذه المنصات، وتدفع القراء إلى الاطلاع على أعمالهم الأصلية، فتكون هذه المنصات أداة دعم للجدي والراقي لا أداة إقصاء.
لطيفة الشهبي (أكاديمية وكاتبة من المغرب)
شهدت الممارسات القرائية خلال العقدين الأخيرين تحوّلات جذرية بفعل التطور المتسارع للبيئات الرقمية، وما أفرزته من منصات ووسائط تكنولوجية أعادت تشكيل علاقة القارئ بالنص الأدبي. لم يعد الفضاء الرقمي مجرد أداة لعرض المحتوى، بل غدا منظومة معرفية وجمالية متكاملة تفرض أنماطًا جديدة للتلقي، وتعيد ترتيب أولويات القارئ، وتؤثر بعمق في تشكل الذائقة الأدبية، خاصة لدى الأجيال الصاعدة. وقد أظهر هذا التحول أن القراءة لم تعد فعلًا خطيًا متصلًا كما في النموذج التقليدي، بل أصبحت تجربة متشظية، سريعة الإيقاع، تفاعلية، وموجَّهة بخيارات تقنية معقدة.وتبيّن الدراسات المعاصرة أن الانتقال نحو القراءة الرقمية أفرز نموذجًا مختلفًا كليًا للتفاعل مع النصوص، يقوم على التكامل بين الوسائط، وعلى تعدّد المسارات، وعلى قابلية النص للتحريك والإضافة والاختيار اللحظي. وفي هذا السياق، برزت الخوارزميات بوصفها وسيطًا مركزيًا، لا يكتفي بتنظيم المحتوى، بل يوجّه القارئ ويقترح ما ينبغي قراءته، مستندًا إلى معطيات دقيقة حول السلوك الرقمي ومدة التفاعل وطبيعة الاهتمامات. وهكذا أصبحت الذائقة الأدبية تُبنى داخل فضاءات تتحكم فيها آليات التصفية والتوصية والقياس، ما يجعل العوامل التقنية جزءًا مؤثرًا في تشكيل أحكام القارئ وتفاعله مع النصوص.إن هذا التحول في بنية القراءة وفي طبيعة النصوص الرقمية التفاعلية دفع الباحثين إلى إعادة النظر في مفهوم التلقي ذاته وفي علاقة القارئ بالنص داخل بيئة يتصاعد فيها حضور المنصات العالمية. فقد بات ضروريًا مساءلة قدرة المناهج النقدية التقليدية على استيعاب هذا الواقع، والتفكير في أدوات جديدة تُلائم النصوص القائمة على التفاعل والتشعب، وتستجيب في الوقت نفسه لمتطلبات القارئ المعاصر. وتكتسي هذه الإشكالات أهمية خاصة في العالم العربي، الذي يشهد، وإن بوتيرة متفاوتة، مشاريع طموحة لإنتاج منصات تراعي خصوصيات المتلقي العربي وتسعى إلى مواءمة التجارب السردية الرقمية مع سياقات ثقافية ومعرفية محلية.ومن خلال عملي البيداغوجي والبحثي، تبيّن لي أن القراءة اليوم أصبحت خاضعة في جزء كبير منها إلى منطق التوجيه الذي تمارسه المنصات عبر خوارزميات دقيقة تُعيد ترتيب الأولويات وتوجّه الاهتمامات. فالتوصيات الصادرة عن منصات مثل Goodreads وWattpad وAmazon ليست محايدة، بل تقوم على تحليل تفاعلات القارئ، ما يجعل القرارات القرائية تُبنى أحيانًا على مخرجات تقنية أكثر مما تُبنى على الفضول المعرفي أو الحاجة الجمالية. وقد لاحظتُ أن العديد من الطلبة يقتربون من النصوص حاملين أحكامًا مسبقة مصدرها الفضاءات الرقمية لا القراءة نفسها، الأمر الذي فرض ضرورة تعليم «قراءة المنصة» إلى جانب «قراءة النص».وقد أغنى هذا الوعي ممارستي في الإشراف على البحوث، ومنها بحث الطالب عبد العظيم الحفيظي الذي انطلق من سؤال جوهري حول تطوير منصة عربية للسرد التفاعلي تستجيب لخصوصية القارئ العربي. وقد أتاح هذا المشروع إعادة التفكير في بنية النص الرقمي التفاعلي بوصفه نصًا متعددًا، مفتوحًا، يتشكل من مسارات متعددة، ويُشرك القارئ في صناعة الدلالة. وتكمن أهمية مثل هذه المشاريع في قدرتها على بلورة تجربة قراءة عربية أصيلة داخل فضاء عالمي تحكمه آليات تكنولوجية قد لا تراعي الخصوصيات الثقافية.كما كشفت التجربة الصفية أن القارئ المعاصر ينجذب أكثر نحو النصوص القصيرة، البصرية، المتقطعة، المتناغمة مع منطق التصفح السريع، وهو ما يؤثر في قدرته على التعمق والاستغراق. ومع ذلك، يتيح العصر الرقمي إمكانات واعدة لتجديد فعل القراءة، من خلال إدماج الوسائط وتوسيع نطاق الوصول، بما يسمح بإحياء علاقة أكثر تفاعلًا وحيوية مع النصوص الأدبية.
لطيفة محمد حسيب القاضي (أديبة وإعلامية من فلسطين)
في حياتنا اليوم، يتعاظم حضور المنصات الرقمية حتى أصبحت الخوارزميات تقترح علينا ما نقرأ، وتوجّه اختياراتنا؛ تفتح مسارات وتُغلق أخرى. وهكذا بدأت الذائقة الأدبية تتحول، ليس بوصفها خيارًا حرًا تمامًا، بل كنتاج لتدفق رقمي ذكي يقدم ما يظن أننا نرغب في الوصول إليه. صارت المنصات تقترح النص وتدفع القارئ نحو كتاب معين بكل مرونة، لكنها لم تعد بريئة؛ فهي تمارس سلطة ناعمة تحدد ما يُقرأ، وكيف يُقرأ، وأحيانًا لماذا يُقرأ.وبصفتي كاتبة ومتابعة للمشهد الأدبي، أقف أمام هذا الواقع بمزيج من القلق والدهشة. فقد لامست هذه التحولات جمهور الأدب بشكل مباشر؛ لم تعد القراءات تبحث عن عمق الفكرة كما كانت، بل عن السهولة والانتشار السريع. وأصبح ما يتصدر المنصات هو ما يتوافق مع إيقاع الشاشة، لا مع إيقاع التأمل والقراءة البطيئة التي كانت تمنح الأدب قيمته الحقيقية.ثم جاءت مرحلة تنميط الذائقة، حيث يجد القارئ نفسه داخل دائرة مغلقة من الاقتراحات المتشابهة والمكررة: الأفكار ذاتها، واللغة ذاتها، والصياغة ذاتها. ومع مرور الوقت، يصبح التمييز بين النص الجيد والنص المصنوع من أجل “الترند” أمرًا صعبًا.وعن سؤال تَسليع الأدب، يمكن القول إن الأدب كان دائمًا جزءًا من السوق، لكنه اليوم أصبح سلعة تُعرض وتباع ويُروَّج لها أحيانًا بمعزل عن قيمتها الجمالية والفكرية وعمق التجربة الإنسانية. لقد صار نجاح كتاب أو نص يقاس بعدد النقرات والمبيعات، لا بجودة الكتابة. وبعض النصوص تُصمَّم تحديدًا لتلائم الخوارزمية: فصول قصيرة، إيقاع سريع، مشاعر مباشرة، وعناوين لامعة. وهنا يكمن الخوف: أن نفقد الأدب الذي يربّي الذائقة، لصالح أدب يُربّى على يد الخوارزميات. ورغم ذلك كله، لا يمكن إنكار أن هذه المنصات منحت أصواتًا شابة فرصة للظهور والوصول. غير أن السؤال يبقى حاضرًا: كيف نحافظ على جوهر الأدب وسط هذا الضجيج الرقمي؟
محمد اشويكة (كاتب وإعلامي من المغرب)
ترتبط الذائقة الأدبية ومعها الجمالية بشكل عام بمجموعة من الظروف والمؤثرات، فالتذوق ثقافي بامتياز، بمعنى أن كل شخص يمر عبر مسارات التنشئة الاجتماعية كي يتمكن من اكتساب أذواق الجماعة التي ينتسب إليها، ولو في بدايات حياته الأولى، لكن الأمر سرعان ما يتطور عند خروج الشخص إلى الحياة.تشمل الذائقة الأدبية بوصفها صيرورة، تراكمًا من العمليات الذهنية والفكرية لدى الشخص، وهنا نقصد حصوله على تلك القدرات التي تسمح له بإدراك جماليات الأدب، وفهمها بناءً على معايير موضوعية وأخرى ذاتية. هكذا، يصير فعل التذوق الأدبي عبارة عن عملية جدلية بين الذات والمنتوجات الأدبية. بمعنى الوصول إلى درجة الإحساس بالجمال الأدبي.تؤدي المؤسسات الاجتماعية دورًا كبيرًا في تشكيل الذائقة الأدبية ومنها الأسرة والمدرسة ووسائل الإعلام، وغيرها. فإذا كانت الأسرة قارئة للأدب، وممتلكة لخزانة منزلية تتيح الاستئناس والتعمق في الأعمال الأدبية، فإن المدرسة تعمّق بناء الذائقة وتصقلها عن طريق التدريس التحليلي الممنهج، واكتساب آليات النقد، وصقل المواهب الإبداعية، فضلًا عما يمكن للإعلام أن يمد الناس به من إبداعات مرجعية خاصة.إذا توفرت هذه الشروط فلا خوف على الذائقة من الانهيار والسقوط في متاهات التسطيح والتفاهة التي تتقاذفها أمواج وتيارات الإبحار غير الممنهج في عوالم الإنترنت، التي لا تخلو من توجيه وتسليع وقتل لملكات النقد والإبداع. وإلا فكيف يمكن بناء الذوق الجيد والذوق السيئ؟ وبالتالي، تمايز الأذواق وتفردها لدى كل فرد؟منذ أن انفتحت على العالم الرقمي في بداياته الأولى، انتبهت وجربت إمكانيات النشر عبر آلياته، فجاءت قصصي الترابطية، التي سعت إلى تجريب تذوق جمالي جديد للقصة القصيرة، وذلك تطويرًا وتثويرًا لأسئلتي الأدبية الإبداعية، والنتيجة أن الكثير من قناعاتي الأدبية قد تغيرت، غير أن الآلة تظل آلة، لكن الاحتكاك بها قد يدفع المبدع نحو استدخال عناصر ذوقية تضيف إلى الأدب وتغنيه، لا سيما وأن الشخص المتذوق سيصدر حكمًا على ما يتذوقه، وهنا لا بد من أن تتسرب الذاتية كي تؤثر في محيطها. وهنا، أَخْلُصُ إلى أن المنصات الرقمية الأدبية المتخصصة قد تؤثر إيجابًا في الذائقة إذا كانت ذائقة المشرفين عليها مبنية وفق مساراتٍ تجمع بين عمق التجربة الذاتية وبين جسارة المسار الدراسي والأكاديمي، الأمر الذي يتيح لها إمكانيات الاقتراح والبناء والتوجيه، وإلا فستصير مجرد تجميع لكل المنتوجات الأدبية بما في ذلك المسمومة والمغرضة والهدامة والرديئة، أي تلك التي تسعى إلى بناء ذائقة تجتر التافه ولا تمتلك آليات التمييز الذوقي.


ضفة ثالثة

أخر المقالات

منكم وإليكم