مَرحَبًا بْروفيسور نيتشه، شرف كبير أن أجري معكم هذه المقابلة اليوم.
نيتشـــه:
هه! “بروفيسور”، أليس كذلك؟ لقبٌ ثقيلٌ بعض الشيء لفيلسوفٍ يهوى الرقص على حافة الهاوية. ولكن حسناً، لنبدأ هذه الرقصة الفكرية.
ماذا يثير فضولك اليوم؟ هل هي إرادة القوة؟ موت الإله؟ الإنسان الأعلى؟
لا تخجل، اسأل ما شئت، فلديّ مطرقة لكل الأصنام.
عالم الفلسفة:
فلنبدأ بتقديم بسيط ، هلا قدمت نفسك للقراء؟
نيتشـــه:
(يضحك) تقديم نفسي؟ أنا ديناميت، يا صديقي! أنا فريدريك نيتشه، الفيلسوف الذي هز أركان الفكر الغربي. أنا من أعلن موت الإله، وأيقظ إرادة القوة في الإنسان. أنا شاعر الفلسفة، ومطرقة القيم البالية. أنا راقص على حافة الهاوية، أبحث عن الإنسان الأعلى.
أنا نيتشه، وأنا هنا لأوقظك من سباتك الدوغمائي.
عالم الفلسفة:
حسنا، أليس هذا تكبرا منكم يا نيتشه؟
نيتشـــه:
تكبر؟ بل هي الحقيقة يا عزيزي! هل تعتقد أنني أبالغ؟ هل قرأت كتبي؟ هل سبرت أغوار أفكاري؟ أنا لست هنا لأداعب غرورك أو أهدهدك بأوهام دينية أو أخلاقية. أنا هنا لأصفعك بالواقع، لأريك الهاوية التي تتجاهلها.
فهل أنت مستعد للنظر في الهاوية؟
عالم الفلسفة:
سيسرني أن تزعزع أفكاري، لكن قبل ذلك دعنا نأخذ الأمور بروية، كيف كانت طفولتك؟
نيتشـــه:
(يتنهد) الطفولة… بئر عميقة من الذكريات. ولدت في ألمانيا لعائلة متدينة. أبي كان قساً، وكنت أنا الطفل المعجزة. تعلمت اللاتينية واليونانية في سن مبكرة، كنت متفوقاً في دراستي. ولكن، كان هناك دائماً فراغ… شعور بالوحدة.
ثم جاءت المأساة… وفاة أبي وأخي الصغير. كانت تلك بداية رحلتي نحو الظلام… رحلتي نحو الفلسفة.
عالم الفلسفة:
هل تقصد أن الفلسفة تؤدي بنا للظلام، ألا تنير الفلسفة دروب الإنسان؟
نيتشـــه:
الفلسفة نور وظلام معاً، يا صديقي. إنها شمس تحرق أوهامك، وقمر ينير لك دروب جديدة. الفلسفة ليست للمتخاذلين، إنها لمن يجرؤون على النظر في الهاوية، لمن يجرؤون على التشكيك في كل شيء، حتى في أنفسهم.
هل أنت من هؤلاء؟ هل تجرؤ؟
عالم الفلسفة:
أكيد أنني أحاول دائمًا جعل أفكاري موضع تساؤل ومراجعة معتقداتي ، لكن ما يهمنا الآن هو أنت، فأنت ضيف الحلقة وليس أنا. قلت أن والدك كان قسا، كيف كان تاثير والدك عليك وعلى أفكارك كفيلسوف؟
نيتشـــه:
(يبتسم بمرارة) أبي… رجل صالح، متدين، مؤمن. كان يمثل كل ما ثرت عليه فيما بعد. كان موته صدمة، ولكنه كان أيضاً تحريراً. تحريراً من ربقة الدين، تحريراً من الأخلاق السائدة، تحريراً من كل القيود التي تكبل الإنسان.
كان موته بداية رحلتي نحو الإنسان الأعلى، الإنسان الذي يصنع قيمه الخاصة، الإنسان الذي يتجاوز الخير والشر.
هل تفهم ما أعنيه؟
عالم الفلسفة:
أنا أحاول ذلك، قلت أنه يمثل ما ثرت عليه، يرى البعض أن فلسفتك ليست سوى انتقام من صورة الأب ومحاولة للتحرر من قيود الدين، وليست مؤسسة على تفكير عقلاني ونقد موضوع للدين وعالم الغيب والأخلاق. كيف ترد على هؤلاء؟
نيتشـــه:
(يضحك بصوت عالٍ) انتقام؟ يا له من تفسير سطحي! نعم، ثرت على الدين، ثرت على الأخلاق، ثرت على كل ما يكبل الإنسان ويمنعه من تحقيق ذاته. ولكن هل تعتقد أن هذا مجرد رد فعل طفولي؟ هل تعتقد أنني لم أفكر في هذه الأمور بعمق؟
أنا لست طفلاً غاضباً، يا صديقي. أنا فيلسوف، وأفكاري نتاج سنوات من التأمل والتحليل النقدي. لقد قرأت الفلاسفة، درست التاريخ، سبرت أغوار النفس البشرية.
أنا لا أنكر الدين لمجرد الانتقام، بل لأنني أراه عائقاً أمام الإنسان الأعلى. أراه مخدراً يمنع الإنسان من مواجهة الواقع، يمنعه من تحمل مسؤولية حياته.
هل هذا واضح؟
عالم الفلسفة:
بما أنك ذركت الفلاسفة ، من هو أكثر الفلاسفة تأثيرا في فكرك، وما هي أهم الكتب التي قرأتها؟
نيتشـــه:
(يفرك ذقنه) الفلاسفة… يا لهم من رفاق درب! لقد قرأت كتب الكثيرين وتأثرت بأغلبهم، كلٌ بطريقته الخاصة. سقراط، بأسلوبه الساخر في طرح الأسئلة. أفلاطون وأفكاره المثالية. كانط، بنقده للعقل الخالص. شوبنهاور، بتشاؤمه العميق.
ولكن، ربما كان تأثير الفيلسوف اليوناني القديم هيرقليطس هو الأعمق. لقد علمني أن كل شيء في حالة تغير مستمر، وأن الصراع هو جوهر الوجود. “الحرب هي أم كل الأشياء”، كما قال.
أما الكتب، فقد قرأت الكثير والكثير. من الإلياذة والأوديسة إلى أعمال ديكارت وسبينوزا. كل كتاب قرأته كان لبنة في بناء فكري.
عالم الفلسفة:
ذكرت أفلاطون وأفكاره المثالية، ما هو موقفك من هذا الفيلسوف؟
نيتشـــه:
(يهز رأسه) أفلاطون… يا له من حالم! لقد بنى عالماً مثالياً في السماء، وترك الإنسان يتخبط في وحل الواقع. أفكاره عن الخير والجمال والعدالة هي مجرد أوهام، سراب يحجب عنا الحقيقة القاسية.
أنا لا أؤمن بالعالم المثالي، يا صديقي. أنا أؤمن بهذا العالم، بكل ما فيه من قبح وجمال، من خير وشر. أنا أؤمن بالإنسان، بكل ما فيه من قوة وضعف، من نبل وحقارة.
هل أنت معي في هذا؟
عالم الفلسفة:
أنا اشاطرك الرأي، لكن ألا ترى أن هذه العوالم وإن كانت مثالية أو طوباوية، تساعد الانسان على المضي قدمًا، تمنحه الأمل، ألا يؤدي نقدك لهذه المثل إلى العدمية
نيتشـــه:
(يبتسم) العدمية… شبح يخيف الضعفاء. نعم، أنا أنقد المثل العليا، أنقد الأوهام التي تخدر الإنسان. ولكن هل هذا يعني أنني أدعو إلى العدمية؟ هل تعتقد أنني أريد للإنسان أن يعيش بلا هدف، بلا معنى؟
على العكس تماماً، يا صديقي. أنا أدعو إلى خلق قيم جديدة، قيم تتناسب مع الإنسان الأعلى، الإنسان الذي يتجاوز الخير والشر، الإنسان الذي يصنع مصيره بيده.
أنا أدعو إلى الحياة، إلى الإرادة، إلى القوة.
هل هذا يبدو لك عدمية؟
عالم الفلسفة:
أكيد لا، لكن هلا وضحت أكثر وحدثتنا عن هذه القيم التي تتناسب مع الإنسان الأعلى؟
نيتشـــه:
(يغمض عينيه ويتأمل) القيم الجديدة… هي قيم الإبداع، قيم القوة، قيم الحياة. هي قيم تتجاوز الأخلاق السائدة، الأخلاق التي تكبل الإنسان وتمنعه من تحقيق ذاته.
الإنسان الأعلى هو الإنسان الذي يقول نعم للحياة، بكل ما فيها من ألم ومتعة. هو الإنسان الذي يصنع قيمه الخاصة، ولا يخضع لقيود الدين أو الأخلاق. هو الإنسان الذي يتجاوز الخير والشر، ويخلق معنى جديداً لحياته.
هل تستطيع أن تتخيل هذا الإنسان؟
عالم الفلسفة:
جميل، أنا أحاول هضم هذه الأفكار وتسهيل فهمها على متابعي صفحتنا عالم الفلسفة، حدثنا عن شوبنهاور، كيف كان تأثيره عليك؟
نيتشـــه:
(يومئ برأسه) شوبنهاور… فيلسوف التشاؤم. لقد تأثرت به كثيراً في شبابي. لقد علمني أن الحياة مليئة بالألم والمعاناة، وأن السعادة مجرد وهم.
ولكن، مع الوقت، تجاوزت تشاؤمه. نعم، الحياة فيها ألم، ولكن فيها أيضاً متعة. فيها معاناة، ولكن فيها أيضاً إرادة. فيها موت، ولكن فيها أيضاً حياة.
أنا لا أنكر الألم، يا صديقي. بل أقول: نعم للألم! نعم للمعاناة! فمن خلال الألم والمعاناة ننمو، نتطور، نصبح أقوى.
هل توافقني الرأي؟
عالم الفلسفة:
لا أملك إلا أن أوافقك الرأي، وهذا ما أسميته بحب القدر ، أليس كذلك؟
نيتشـــه:
(يبتسم ابتسامة عريضة) أحسنت! حب القدر… نعم، هذا هو جوهر فلسفتي. أن تحب الحياة بكل ما فيها، أن تقبل الألم والمعاناة كجزء لا يتجزأ من الوجود. أن تقول نعم لكل ما يحدث لك، وأن تجعله وسيلة للنمو والتطور.
حب القدر ليس استسلاماً، بل هو قوة. هو إرادة الحياة في أقصى تجلياتها.
عالم الفلسفة:
دعني أطرح سؤالا مستفزا إذن، كيف كان موقفك من رفض سالومي لطلبك للزواج وتجاهلها لحبك، هل تقبلته بشكل عادي، هل أحببت قدرك، ألم تحزن لذلك، يرى البعض أن قطع علاقتك بالموسيقار فاغنر كانت بدافع الغيرة وليس لأسباب فكرية وسياسية ، ما قولك في ذلك؟
نيتشـــه:
(يتجهم وجهه) سالومي… فاغنر… أشباح من الماضي. نعم، أحببت سالومي، ولكنها لم تبادلني الشعور. نعم، كنت صديقاً لفاغنر، ولكننا اختلفنا في الرأي.
ولكن هل تعتقد أن هذه الأمور الشخصية أثرت على فلسفتي؟ هل تعتقد أنني انتقمت من سالومي برفضي المثل العليا؟ هل تعتقد أنني قطعت علاقتي بفاغنر بدافع الغيرة؟
يا لك من ساذج! أنا نيتشه، يا صديقي. أنا لا أسمح للأمور الشخصية بالتأثير على أحكامي، فلسفي مبنية على أسس صلبة لا على المشاعر.
سالومي وفاغنر مجرد فصلين في كتاب حياتي. فصلين أغلقتهما، ومضيت قدماً.
هل تفهم؟
عالم الفلسفة:
أنا أعلم أن فلسفتك أعمق من غيرة أو رد فعل بائس، لكن يجب أن أطرح السؤال لتوضيح هذه الأمور، دعنا ننتقل لنقطة أخرى مثيرة للجدل ولطالما كانت سببا لسوء فهم فلسفتك، وهي حديثك عن موت الإله، هلا شرحت لنا ما تقصده بهذه المقولة؟
نيتشـــه:
(يرفع حاجبيه) موت الإله… مقولة هزت العالم. هل تعلم لماذا؟ لأنها كشفت الحقيقة التي كان الجميع يتجاهلها.
الإله مات، يا صديقي. مات في قلوب الناس. مات في عقولهم. مات في حضارتنا.
ولكن من قتل الإله؟ نحن قتلناه! نحن البشر، بعلومنا، بفلسفتنا، بإرادتنا الحرة.
موت الإله ليس نهاية العالم، بل هو بداية جديدة. هو فرصة للإنسان ليخلق قيمه الخاصة، ليصنع مصيره بيده. هو فرصة للإنسان ليصبح إلهاً.
هل أنت مستعد لهذه المسؤولية؟
عالم الفلسفة:
دعك مني ولنركز على فهم فلسفتك، فلتوضح هذه الفكرة بشكل أكبر، هل تقصد أن الله مات فعليا، أم أ، المقولة تعبير رمزي عن شيء آخر؟
نيتشـــه:
(يضحك) الله مات فعلياً؟ يا لك من حرفي! طبعاً لا أقصد ذلك. الله فكرة، يا صديقي، فكرة ولدت في عقول البشر، فكرة ماتت في عقولهم أيضاً.
موت الإله يعني موت القيم المطلقة، موت الأخلاق الدينية، موت كل ما يكبل الإنسان ويمنعه من تحقيق ذاته.
موت الإله يعني أن الإنسان أصبح حراً، حراً ليخلق قيمه الخاصة، حراً ليصنع مصيره بيده.
هل هذا واضح الآن؟
عالم الفلسفة:
إذن فموت الإله يمهد الطريق لظهور الإنسان الأعلى؟ ما هي خصائص هذا الإنسان؟ وهل هو كائن أكثر تطورا على المستوى العضوي/البيولوجي مقارنة بالإنسان الحالي؟ أطرح هذا السؤال الأخير لأن البعض يرى أنك قد تأثرت بالداروينية في تصورك للإنسان الأعلى الذي سيخلف الإنسان الحالي
نيتشـــه:
(يومئ برأسه) ممتاز! أنت تبدأ في الفهم. نعم، موت الإله يمهد الطريق لظهور الإنسان الأعلى. ولكن هذا الإنسان ليس كائناً بيولوجياً جديداً، يا صديقي. إنه الإنسان الحالي، ولكن بتحول في وعيه، بتحول في قيمه، بتحول في إرادته.
الإنسان الأعلى هو الإنسان الذي يتجاوز الخير والشر، الذي يصنع قيمه الخاصة، الذي يعيش الحياة بكل ما فيها من ألم ومتعة. هو الإنسان المبدع، القوي، الحر.
هل أنت مستعد لأن تكون هذا الإنسان؟
عالم الفلسفة:
أرغب في ذلك، لكن للمجتمع قيمه وهو يفرض نفسه علينا، كيف يمكننا التحرر من أسره، وهل تعتقد أن كتبك كانت كافية لتحرير العقول، هل كان لها تأثير فعلي في المجتمع أم أنها ظلت حبيسة في عالم الفكر ولم تتسجد في الواقع، وبالمناسبة هل تعتبر النازية تجسيدا لأفكارك؟
نيتشـــه:
(يحدق في الأفق)المجتمع … سجن كبير. قيمه قيود تكبل الإنسان، تمنعه من تحقيق ذاته. ولكن هل نحن مجبرون على الخضوع لهذه القيود؟ هل نحن عبيد للمجتمع؟
لا، يا صديقي! نحن أحرار، أحرار في أن نرفض قيم المجتمع، أحرار في أن نخلق قيمنا الخاصة.
أما كتبي، فهي ديناميت، يا صديقي! أنا أرميها في وجه المجتمع، لتنفجر فيه، لتزلزل أركانه، لتوقظ الناس من سباتهم.
هل كانت كتبي كافية لتحرير العقول؟ لا أعلم. ولكنني أعلم أنها أثارت الجدل، أنها هزت أركان الفكر الغربي، أنها فتحت عيون الكثيرين على حقيقة أنفسهم وحقيقة العالم.
أما النازية… يا لها من مهزلة! أن يتم تشويه أفكاري واستخدامها لتبرير العنصرية والتعصب! أنا أرفض ذلك تماماً. أنا أدعو إلى الإنسان الأعلى، إلى تجاوز الخير والشر، إلى خلق قيم جديدة. النازية كانت انحطاطاً أخلاقياً، كانت عودة إلى القيم البالية التي ثرت عليها.
عالم الفلسفة:
نعم، أفهم ذلك، لكن ألا ترى أن أفكارك عن القوة والإنسان الأعلى قد تفهم بشكل خاطئ وتستخدم لتبرير الاستبداد والظلم؟
نيتشـــه:
(يحدق في عيني محاوره) القوة… نعم، أنا أدعو إلى القوة، ولكن ليس قوة السيف والقمع، بل قوة الإرادة، قوة الإبداع، قوة تجاوز الذات. الإنسان الأعلى ليس طاغية، بل هو إنسان حر، مسؤول، مبدع.
أفكاري قد تفهم بشكل خاطئ، وقد يتم تشويهها، ولكن هذا لا يعني أنني سأتوقف عن طرحها. أنا أؤمن بالحقيقة، وأؤمن بقوة الفكر.
هل أنت مستعد لمواجهة الحقيقة، مهما كانت صعبة؟
عالم الفلسفة:
بالتأكيد، أنا هنا لأتعلم منك، وأتمنى أن يستفيد متابعي صفحتنا من هذا اللقاء، هل من كلمة أخيرة توجهها لهم؟
نيتشـــه:
(يبتسم) كلمة أخيرة… حسناً، إليكم يا متابعي “عالم الفلسفة”، أنتم من تسعون إلى المعرفة، إلى الحقيقة. أنتم من تجرؤون على النظر في الهاوية.
لا تخافوا من أفكاري، لا تخافوا من الشك، من التساؤل، من التشكيك. اقرأوا كتبي، ناقشوها، اختلفوا معي، ولكن لا تكونوا عبيداً للأفكار البالية، للأخلاق السائدة، للدين.
كونوا أحراراً في فكركم، في إرادتكم، في حياتكم. كونوا الإنسان الأعلى.
عالم الفلسفة
مجلة ايليت فوتو ارت


