ترجم :نوفل نيّوف.. رسالة: تشارلي شابلِن إلى ابنتِه: سعيت لأن أكون إنسانا..


رسالة تشارلي شابلِن إلى ابنتِه: سعيت لأن أكون إنسانا
ترجمة: نوفل نيّوف .

 “بُنَيَّتي!
الوقت ليل. ليلة عيد الميلاد. جنود قلعتي الصغيرة كلّهم خلدوا إلى النوم. أخوكِ وأختكِ نائمان. وحتى أمّك قد غفت. كدتُ أوقظ فراخ الطير من نومها، وأنا متوجِّهٌ إلى هذه الغرفة الخافتة الضوء. كم أنتِ بعيدة عني! ولكن فليُصِبْني العمى إن لم تكن صورتكِ دائمًا نُصبَ عينَيّ. ها هيَ صورتكِ هنا على الطاولة، وهنا، قريبًا من قلبي. فأين أنتِ؟ إنكِ هناك، في باريس الخُرافية، ترقصين على خشبة المسرح المهيبة في الشانزليزيه. إنني أعرف هذا جيدًا، ومع ذلك يُخيَّل إليّ أني في سكينة الليل أسمع خطواتكِ، وأرى عينيكِ تتألّقان مثلَ نجوم في سماء الشتاء.
أسمعُكِ تؤدين في هذا الاحتفال المسرحيّ المشرق ليلةَ العيد دورَ حسناء فارسية، أسرَها خان التتار. كوني حسناء وارقصي! كوني نجمةً وتألَّقي! ولكن إذا ما أسكرَكِ إعجابُ الجمهور وامتنانه، وإذا ما أصابكِ بالدوار عطرُ الزهور التي يقدَّمونها لكِ، فاجلسي في ركنٍ واقرئي رسالتي، وأنصتي إلى صوت قلبكِ. أنا والدكِ، يا جيرالدين! أنا تشارلي، تشارلي شابلن! هل تعلمين كم أمضيتُ من الليالي جالسًا قرب سريركِ وأنتِ طفلة صغيرة جدًا، أحكي لكِ حكايات الحسناء النائمة، والتنّين الذي لا ينام؟ وعندما يُغمِض النومُ عينيّ العجوزين، أسخر منه وأقول: “انصرِفْ! إن نومي هو أحلام طفلتي!”.
لقد رأيتُ أحلامكِ، يا جيرالدين، رأيتُ مستقبلكِ، وحاضركِ. رأيتُ فتاةً ترقص على المسرح، وجنِّيَّةً تطير في السماء. سمعتُ الجمهور يقول: “هل تَرى هذه الفتاة؟ إنها ابنة مهرِّج عجوز”. هل تذكر، كان اسمه تشارلي؟” نعم، أنا تشارلي! أنا المهرِّج العجوز! اليوم جاء دورُكِ. فارقصي! لقد كنتُ أرقص في بنطلون واسعٍ ممزَّق، أمَّا أنتِ فترقصين في فستان حرير ترتديه الأميرات. هذه الرقصات وهدير التصفيق سيرفعكِ أحيانًا إلى السماء. فلتطيري! طيري إلى هناك! ولكنِ اهبطي أيضًا على الأرض! يجب عليكِ أن ترَي حياة الناس، حياة من يرقصون في الشوارع، من يرقصون وهم يرتجفون من البرد والجوع.
لقد كنتُ مثلَهم، يا جيرالدين. في تلك الليالي، تلك الليالي الساحرة التي كنتِ تغفين فيها، وقد هدهدتْكِ حكاياتي، وأنا سهران.
كنتُ أنظر إلى وجهك، أسمع دقات قلبكِ، وأسألُ نفسي: “تشارلي، هل ستعرفكِ هذه القطة ذاتَ يوم؟” أنتِ لا تعرفينني، يا جيرالدين. لقد رويتُ لكِ كثيرًا من القصص في تلك الليالي البعيدة، أمّا قصتي فلم أرْوِها لكِ أبدًا. إنها مشوِّقة أيضًا. فهي حكاية عن مهرِّج جائع كان يغنّي ويرقص في الأحياء الفقيرة من لندن، ثم يجمع الصدقات. تلك هي حكايتي! لقد عرَفتُ ما هو الجوع، وماذا يعني ألا يكون للمرء سقفٌ يحميه. وأكثر من ذلك، فقد خبرتُ الألم المُهين الذي يعانيه مهرِّجٌ جوَّال يهدر في صدره محيطٌ من عزّة نفسٍ يجرحها ما يُلقى إليه به من قِطع نقود معدنية. ومع ذلك، ما أزالُ حيًّا، فلننْصرِفْ عن ذلك.
“اشتغلتُ وقتًا طويلًا في السيرك، وكنت شديد القلق دائمًا بشأن مَن يمشون على الحبال، ولكن يجب أن أقول لكِ إن مَن يقع من الناس على أرض صلبة أكثرُ ممَّن يمشون على حبل مشدود لا يوحي بالثقة” (Getty)
خيرٌ لنا أن نتحدث عنكِ. فاسمُكِ جيرالدين يعقبه اسمُ عائلتي: تشابْلِن. وهو الاسم الذي أضحكتُ به الناس أكثر من أربعين عامًا. غير أني بكيت أكثر ممّا كانوا يضحكون. إن في عالمكِ الذي تعيشين فيه، يا جيرالدين، ما هو أكثرُ من مجرَّد رقصٍ وموسيقى! ففي منتصف الليل، عندما تغادرين القاعة الكبرى، قد تنسين الأثرياء المعجَبين بكِ، ولكن لا تنسي أن تسألي سائق التاكسي الذي يوصلكِ إلى المنزل عن زوجته. فإذا كانت حاملًا، ولم يكن لديهم مالٌ يكفي لشراء حاجات الطفل القادم، ضعي مالًا في جيبه. لقد أوعزتُ للبنك بأن يُغطّي نفقاتكِ هذه. أمّا جميعُ الآخَرين فحاسبيهم قرشًا بقرش. واركبي المترو أو الحافلة بين حين وحين، وامشي، وألقي نظرة على المدينة.
انظري إلى الناس عن قرْب! انظري إلى الأرامل والأيتام! وقولي لنفسك ولو مرة واحدة يوميًا: “إنني مثلُهم تمامًا”. نعم، أنتِ واحدة منهم يا طفلتي! وأكثرُ من ذلك. إن الفن، قبل أن يمنح المرءَ أجنحةً يستطيع أن يحلِّق بها عاليًا، يكسر في العادة ساقيه. وإذا ما جاء يومٌ تشعرين فيه بأنكِ أعلى من الجمهور، اتركي المسرح فورًا. واركبي أوّلَ سيارة أجرة إلى ضواحي باريس. إنني أعرفها جيدًا! هناك سترين كثيرًا من الراقصات مثلكِ، بل يفُقْنَكِ جمالًا ورشاقة، وأكثرَ إباءً. لن تجدي هناك أثرًا لأضواء مسرحكِ المبهِرة. فجهاز أضوائهم المبهرة هو القمر.
دقِّقي النظر جيدًا، دقّقيه! ألا يرقصون أفضلَ منكِ؟ اعترفي، يا طفلتي! سيكون هناك دائمًا من يرقص أفضل منكِ، ومَن يمثّل أفضل منكِ! وتذكَّري: لم يكن في عائلة تشارلي شخص وقح واحدٌ شتم سائق سيارة أجرة أو سخر من متسوِّل جالس على ضفاف نهر السين. إنني سأموت، ولكنك ستبقين حيّة. أريد لك ألا تعرفي الفقر أبدًا. ومع هذه الرسالة، أُرسل لكِ دفتر شيكات يمكّنكِ من الإنفاق قدْرَ ما تشائين. ولكنْ عندما تنفقين فرنكَين، لا تنسي أن تُذكِّري نفسك بأن الفرنكَ الثالث ليس لكِ، بل هو لغريب محتاج. ويمكنك بسهولة أن تَجِديه. ما عليك سوى أن ترغبي برؤية أولئك الفقراء الغرباء لتجديهم في كل مكان. فأنا أكلّمكِ عن المال لأني خبرتُ قوته الشيطانية. لقد اشتغلتُ وقتًا طويلًا في السيرك، وكنت شديد القلق دائمًا بشأن مَن يمشون على الحبال، ولكن يجب أن أقول لكِ إن مَن يقع من الناس على أرض صلبة أكثرُ ممَّن يمشون على حبل مشدود لا يوحي بالثقة.قد يُعميك بريق ألماسةٍ في أثناء عشاء احتفالي. في تلك اللحظة بالذات تصبح الألماسة حبلًا خطيرًا عليكِ، ويصبح سقوطكِ حتميًا. وربما ذاتَ يومٍ جميل، يأسرك وجهُ أميرٍ وسيم. في ذلك اليوم نفسه، تصبحين عديمة الخبرة تمشين على حبل، والناس عديمو الخبرة يسقطون دائمًا. لا تبيعي قلبك بالذهب والجواهر. واعلمي أن الألماسة الأعظم هي الشمس. ولحسن الحظ، إنها تتألق للجميع. وعندما يأتي الوقت وتقعين في الحب، أحبّي ذلك الشخص من كل قلبك. لقد طلبتُ من والدتك أن تكتب إليك عن هذا. إنها أفهم منّي بالحب، ومن الأفضل لها أن تُحدثك عنه بنفسها. إن عملك شاقّ، أعلم ذلك.
لا يغطّي جسدَك إلّا قطعةُ حرير فقط. من أجل الفن، يجوز للمرء أن يظهر على المسرح عاريًا، ولكنْ يجب عليه أن يعود ليس فقط بملابسه، بل وأكثرَ نظافةً. إنني عجوز، ولعلّ كلماتي تبدو مضحكة. لكنْ، في رأيي، يجب أن يكون جسدك العاري لمن سيحبّ روحَك العارية. لا بأس إن كان رأيك في هذه المسألة قد تشكّل قبل عشر سنوات، أي يعود إلى زمنٍ يَغرب. لا تقلقي، فهذه السنوات العشر لا تجعلكِ متقدِّمة في العمر. ولكني، مهما يكن، أريد لكِ أن تكوني الأخيرة بين من سيحملون جنسية جزيرة العراة. أعرف أن بين الآباء والبنين صراعًا أبديًا. حارِبيني، حاربي أفكاري، يا بُنيّةُ! لا أحبُّ الأطفال الطيِّعين. وقبل أن تنهمر الدموع من عينَيَّ على هذه الرسالة، أريد أن أصدِّق أن هذه الليلة، ليلة عيد الميلاد، هي ليلةُ المعجزات.
أتمنّى أن تحدث معجزة، وأن تفهمي حقًا كلَّ ما أردتُ أن أقوله لكِ. لقد أدركَتِ الشيخوخةُ تشارلي، يا جيرالدين. وعاجلًا أم آجلًا، سيتوجّب عليكِ أن ترتدي ثياب الحِداد، بدلًا من الفستان الأبيض للمسرح، لكي تأتي إلى قبري. والآن لا أريد أن أزعجكِ. فقط حدِّقي في المرآة بين حين وحين، هناك سترين ملامحي. إن دمي يجري في عروقكِ. حتى عندما يبرد الدم في عروقي، أريد ألّا تنسي والدَكِ تشارلي. لم أكن ملاكًا، ولكنني سعيتُ لأن أكون إنسانًا. فاسعي أنتِ أيضًا.
أقبِّلكِ، يا جيرالدين.تشارلي الذي لكِ.كانون الأول/ ديسمبر 1965″.
 
(*) تُرجم هذا النص من كتاب ” حياتي المدهشة: السيرة الذاتية لتشارلي شابلن” (Моя удивительная жизнь. Автобиография Чарли Чаплина). موسكو. دار إكسمو (Eksmo)، 2020
 
المادة من موقع ضفة ثالثة


أخر المقالات

منكم وإليكم