بعد غياب طويل تعود المخرجة السورية:هالة العبد الله.لتقدم فيلم لرائد السينما التسجيلية: “عمر أميرالاي: الألم.. الزمن.. الصمت”.- تقديم: سمر شمة.

المخرج السوري

عمر أميرالاي: رائد السينما التسجيلية
سمر شمة
سينما. عمر أميرالاي
بعد سنوات طويلة من الغياب القسري، ومنع أفلامها من العرض في بلدها سورية، عادت المخرجة هالة العبد الله إلى دمشق مؤخرًا، لتعرض فيلمًا وثائقيًا لها في عدد من المحافظات والمدن السورية: دمشق ــ ريف دمشق ــ حمص ومصياف، تحت عنوان: “عمر أميرالاي: الألم.. الزمن.. الصمت”. وهو كأفلامها كافة يحكي عن السوريين والاستبداد والقمع الذي خيّم على البلاد لأكثر من خمسة عقود، وعن أوجاع الناس وأحلامهم البسيطة والمشروعة. عادت يرافقها المخرج السينمائي الراحل عمر أميرالاي الذي عملت معه طويلًا وتربطهما صداقة عميقة وحقيقية، بسخريته المعهودة وتجربته الشخصية والفنية في ظل نظام البعث البائد، وذلك من خلال فيلمها الذي سجّلت حواراته في 2009، على أمل متابعته في ما بعد، لكنّ الموت خطف رائد السينما التسجيلية في 2011 قبل انطلاق الثورة السورية بأسابيع، والتي كانت حلمه ونبوءته ورهانه الدائم على التغيير وإسقاط النظام الشمولي الذي سرق البلاد وحكم أهلها بالحديد والنار في حقبة الأسدَين الأبِ والابنِ المظلمة.عرض الفيلم في سورية، كما قالت مخرجته وكاتبة السيناريو له العبد الله، بعد ثلاثين عامًا من العمل في السينما: “هو لحظة استثنائية، كنت أتمنى أن يكون عمر إلى جانبي اليوم. كما أتمنى أن يكون معنا كل الذين فقدناهم منذ بداية الثورة من الشهداء والمفقودين والمغيّبين. هذا الفيلم محاولة لاستعادة أصواتهم وأحلامهم بالعرض في بلدي الذي مُنعت منه طوال عقود، رغم أن أفلامي كلها عن السوريين”.الفيلم وثائقي ــ تسجيلي مدته 110 دقائق، وهو تصوير لحياة المخرج أميرالاي، ولجوانب من حياة السوريين، وحديث عميق وناضج عن مصير أجيال سورية قُمعت وسُجنت وحُرمت من الحريات والعدالة والحياة الكريمة في ظل نظام مجرم أطبق على السلطة لأكثر من خمسين عامًا. شهادة عن حب ابن لأمه التي ربّته واستحوذت على حياته واهتمامه بمرضها وتفاصيل يومياتها بعد أن دخلت مرحلة الشيخوخة التي تحدث عنها بألم: “أعيش صورة عن الشيخوخة التي ليست بعيدة عني طبعًا”. وعن العدالة وإيمانه بها الذي لا يتزعزع، والانتماء والوجود وفهمه للفيلم التسجيلي ودوره: “انتزعت بوعيي الحرية من الفيلم التسجيلي، ومن ثقافتي السينمائية. السينما التسجيلية ليست جنسًا مغلقًا، إنها مفتوحة على كل الاحتمالات، فيها تغيّرين إضاءة الواقع، وتصنعين إضاءتك الخاصة بهدف درامية الموقف”.”أفلامه حيّة وكأنها تنبض بالواقع الذي نعيشه الآن. كان مغامرًا وعنده متعة الاكتشاف وطاقة كبيرة على السخرية المؤلمة. لا يهتم بالرقابة أبدًا”
الفيلم حوار عفوي وشاعري وعميق وحرّ بين صديقين جمعتهما السينما التسجيلية التي تحاربها الأنظمة لتعريتها للروايات الرسمية والأكاذيب، وجمعهما شغف الحرية. وهو غني بالمضمون، يرصد بالكاميرا مراحل تعليم أميرالاي في فرنسا، ثم عودته إلى دمشق، ومسيرته الفنية التي حملت نقدًا لاذعًا للأنظمة الاستبدادية والواقع السوري، مع تسليط الضوء على أبرز أفلامه الوثائقية بما فيها: “الحياة اليومية في قرية سورية” (1974)، وهو من تأليف سعد الله ونوس، والذي عُدَّ آنذاك الفيلم التسجيلي الأول الذي انتقد بشدة وجرأة التهميش الذي يعيشه السوريون، والإهمال متمثلًا في قرية بشمال دير الزور، والذي بيّن أيضًا الأثر السلبي لبناء سد الفرات على القرى المجاورة له. وفيلمه “الدجاج” (1977)، الذي رصد التحولات الاقتصادية والاجتماعية التي طرأت على إحدى القرى السورية (صدد)، والتي تعود إلى الألف الثاني قبل الميلاد، وجاء ذكرها في التوراة.تحدث المخرج الراحل في هذا الفيلم عن ثلاثة مشاريع أفلام سينمائية أيضًا، كان يعمل على تحقيقها: الأول عن القرامطة، الفرقة الإسماعيلية المتمردة التي أقامت دولة إثر ثورة اجتماعية وسياسية ضد الدولة العباسية. والثاني عن المطربة أسمهان، التي عملت في السياسة، واتُّهمت بالعمالة للإنكليز. والثالث عن الممثلة السورية إغراء الجريئة المعروفة في تاريخ السينما السورية كما قال. وظهرت في شهادته مواقفه التي جمعت بين تبنٍّ يساري فكري وانتقاد لاذع لفساد الأنظمة الشيوعية والاشتراكية وبيروقراطيتها وقمعها للحريات. إضافة إلى تمرده الذي كان واضحًا في تفاصيل حياته وأمنياته: “كان ممكن كون ضابط. وربما كان ذلك أفضل من أن أكون سينمائيًا. ولكن ليس الضابط المتقاعد الذي يذهب للمقهى ويعود للغداء في منزله. أريد ضابطًا يقوم بانقلاب. يذهب للمعركة ويحتل التلفزيون ويعلن البلاغ الأول”.في هذا الوثائقي السينمائي أسئلة وأجوبة وبحث عن الحرية والعدالة وقضية السوريين التي أسرت قلبه وعقله، وتأملات في الحب والموت والسياسة وآلام الغياب القسري. وقد قدّمته هالة العبد الله بصوتها مع موسيقى صاخبة وقلقة في بدايته وهي تردد كلمات: الموت ــ الحياة ــ القمع ــ الحرية ــ السينما ــ الأمن والوطن، متّكئةً على علاقة صداقة جمعتها بعمر منذ ستينيات القرن الماضي، مستعيدةً مراحل الحراك السياسي الذي قام به المثقفون السوريون منذ تلك الفترة وصولًا إلى الثورة السورية التي حضرت بقوة في الفيلم عبر تقاطعات فكرية بين الثوار والمخرج الراحل، وعبر مشاهد المظاهرات والاحتجاجات الشعبية العارمة.
مشهد من فيلم “طوفان في بلاد البعث”
ووجّهت رسالة لشريكها السينمائي بصوتها أيضًا تخبره فيها عمّا حلّ ببلدهما وعن أطفال درعا والقتل وسفك الدماء بعد انطلاقها، واستباحة المدن والقرى وأهلها الثائرين، والبدايات البهيّة الجميلة لها، والمآلات المحزنة فيما بعد كما قالت.صوّرت المخرجة مواد هذا الفيلم، كما ذكرت أكثر من مرة، بطريقة ارتجالية وعفوية واضحة، وخبّأت المواد لكي تعود لاحقًا وتكمل هذا المشروع باحترافية عالية. لكنّ وفاة والدة أميرالاي ووفاته بعدها بعام فقط 2011، وكأنه لم يحتمل الحياة من بعدها، أوقفت الحلم والمشروع. وعندما بدأت الثورة في سورية نسيت هذا الموضوع، ونسيت كل ما كان قبل الثورة، وراحت تراكم في ذاكرتها وروحها ما له علاقة بيومياتها وتفاصيلها. وبدأت عام 2018 بالبحث عن ضوء فعادت للحوارات التي سجّلتها قبل عشرة أعوام، وكأنها تلبّي وصية الراحل قبل الموت، وهي تعترف دائمًا بأن المواد غنية بالمضمون، لكنها ضعيفة كصورة، رغم أنها وثيقة للتاريخ.هناك ملاحظات عديدة على الفيلم تتعلق بالمستوى الفني، وربما السبب يعود لما ذكرناه آنفًا. الصوت كان سيئًا بسبب الضجة وأصوات الحفر التي تحيط بمنزل عمر مكان التصوير. وفقير بصريًا. والكاميرا غير منضبطة ولا منهجية، يتحدث أمامها الراحل بعفوية ولامبالاة أحيانًا، وكانت الاختيارات فيه أقرب إلى المادة الخام منها إلى الفيلم المنجز، وكأن هالة لم “تُرد أن تخرج فيلمًا بقدر ما أرادت أن تترك أثرًا حميمًا لصديق غائب”. أما الموسيقى فكانت معبّرة عن المضمون ورافقته بنجاح حاملةً ملامح درامية غامضة.استخدمت العبد الله في فيلمها أسلوبًا سينمائيًا يجمع بين الوثائقي والتجريبي، تتداخل المشاهد الأرشيفية فيه مع الحوارات، وتدمج الماضي بالحاضر مما يوحي باستمرار الصراع مع النظام الأسدي واستمرار معارضته. هذا إلى جانب مشاعر الفقد والحنين عالية المستوى والتي بدت واضحة عندما زارت منزل الراحل في باريس، الخالي والموحش بخطوات ثقيلة وحزن كبير. كانت الكاميرا عمومًا في هذا العمل الفني وسيلة للبوح الصافي الصادق، وليس لجماليات الصورة، رغم أن عمر: “لا يبوح عادة. وكان بوحه مفاجئًا لي. وهذا دفعني للبحث عن حل فني لأصنع فيلمًا بهذه المادة الفقيرة بصريًا”.”انتزعتُ بوعيي الحريةَ من الفيلم التسجيلي ومن ثقافتي السينمائية. السينما التسجيلية ليست جنسًا مغلقًا، إنها مفتوحة على كلّ الاحتمالات”
يُعدُّ عمر أميرالاي رائدًا من رواد السينما التسجيلية، كرّس حياته لبلده وللفن السينمائي في رحلة امتدت أربعين عامًا من النشاط السياسي وصناعة الوثائقيات الجريئة في بلده الذي كان يئنّ تحت حكم الطغاة. درس المسرح في جامعة “مسرح الأمم” بباريس (1966 ــ 1967)، ثم التحق بالمعهد العالي للدراسات السينمائية هناك. من أفلامه التسجيلية فيلم “طوفان”، وفيه نقد سياسي لاذع لسياسة حزب البعث الحاكم في سورية، وخصوصًا في مجالَي التربية والتعليم. وفيلم عن الكاتب المسرحي سعد الله ونوس، “وهناك أشياء كثيرة كان يمكن أن يتحدث عنها المرء” (1997)، وهو في أوج صراعه مع مرض السرطان. وفيلم “الرجل ذو النعل الذهبي” الإشكالي عام 2000، وهو عن رئيس الحكومة اللبنانية رفيق الحريري الذي قضى اغتيالًا في لبنان، وعن علاقة المال بالسياسة، وأفلام عن الحرب الأهلية اللبنانية والاجتياح الإسرائيلي لبيروت في الثمانينيات وأوضاع اللاجئين الفلسطينيين.قال عنه بعض النقاد إنه كان متمسكًا بالصعاب، ولم يتبدّل أبدًا، وحاول دائمًا أن يدخل الأنفاق الصعبة المظلمة. بينما قالت عنه المخرجة العبد الله: “أفلامه حيّة، وكأنها تنبض بالواقع الذي نعيشه الآن. كان مغامرًا، وعنده متعة الاكتشاف، وطاقة كبيرة على السخرية المؤلمة. لا يهتم بالرقابة أبدًا رغم أن أفلامه في سورية كانت تُمنع قبل مشاهدتها لمجرد أنها من توقيعه”.هالة العبدالله: كاتبة سيناريو ومنتجة تعيش في فرنسا. تعاونت مع كبار المخرجين والمنتجين العرب والفرنسيين. درست السينما والفنون السمعية البصرية في جامعة باريس، وحصلت على شهادة في أنثروبولوجيا العالم العربي من كلية الدراسات للعلوم الاجتماعية هناك، وشاركت في لجان تحكيم بمهرجانات دولية سينمائية مهمة.أنجزت عددًا من الأفلام الوثائقية منها: “أنا التي تحمل الزهور إلى قبرها” (2006)، وهو عن المشكلات التي يواجهها الإنسان في الحياة، وعلاقته بالمحيط والسلطات السياسية والقمع والصراع من أجل البقاء. وكانت في أفلامها وهي المعتقلة السياسية في سجون حافظ الأسد تفضح هذا النظام الديكتاتوري وآلته القمعية قبل الثورة السورية، ومنها: “محاصر مثلي”، الذي يتناول حياة المفكر والأديب السوري فاروق مردم بك، الذي عاش في المنفى 1975. وفيلم “كما أننا نمسك الكوبرا”، وهو توثيق لأثر الأحداث على سورية ومصر قبل ثورات الربيع العربي وبعدها، عبر مقابلات مع رسامي كاريكاتير مصريين وسوريين، والكاتبة والروائية السورية سمر يزبك. وآخر أفلامها “عمر أميرالاي: الألم.. الزمن.. الصمت”، وهو ليس تكريمًا للراحل فقط، بل لاستمرارية إرث سينمائي وسياسي مشترك. وينتهي بوفاته وبمظاهرات السوريين 2011 وصوت عبد الباسط الساروت الشهيد وحارس الكرامة يصدح: “جنّة جنّة جنّة.. سورية يا وطنّا” يختلط بصوت هالة: “قتل.. تعذيب.. تجويع.. تهجير.. سجون”، ملامح وعناوين التراجيديا السورية الأسدية البائدة .

أخر المقالات

منكم وإليكم