المربعانية والخمسينية حكمة الأجداد وتجاربهم
بقلم نجوى عبد العزيز محمود
اعتمد أجدادنا قديماً على مراقبة السماء والنجوم وتقلبات الطقس لوضع تقويمٍ زراعي ومناخي دقيق، انطلاقاً من حاجتهم الملحة لتنظيم حياتهم اليومية وزراعتهم، فكوّنت ذاكرتهم وخبرتهم المتوارثة، ومشاهداتهم لظواهر وتغيرات الفصول الأربعة وما يرتبط فيها من استقراء للأحوال الجوية والحياة الطبيعية، ثقافة محلية شعبية، وكانت مصدراً مهماً للمعرفة في مواجهة ظروف الحياة الصعبة المتعلقة بمزروعاتهم، فكانت روزنامتهم الخاصة في الزراعة،ولم يكن فصل الشتاء مجرد موسم للأمطار، بل فترةٌ زمنية مُقسمة بدقة إلى مراحل، لكل منها اسمٌ ورمزٌ وحكاية.
فالتراث الثقافي يحفل بسجل واسع من الروايات والحكم فلم يترك حادثة أو مناسبة إلا وربطها بقصة أو مثل تتناقله وتتوارثها الأمة عبر الأجيال والعصور، كغيره من الأحداث والمناسبات، وأبرزها تراث تقسيم فصل الشتاء، ويقع على قسمين وفقاً لما حدّده أجدادنا، فأصبح موروثاً شعبياً حضارياً يشهد على هوية المكان.
منذ القدم اعتمد أجدادنا على “المربعانية والخمسينية” في تحديد مواسم مزروعاتهم المتنوعة حتى أصبحت بالنسبة لنا بوصلة العمل والمدرسة الزراعية الأولى التي علمتنا كيف نمشي على روزنامتهم الخاصة بالزراعة منذ آلاف السنين، ولا نزال نعتمد عليها حتى الآن
أربعينية الشتاء
قسّم أجدادنا فصل الشتاء البالغ عدد أيامه 90 يوماً إلى قسمين: “المربعانية”؛ وهي أربعون يوماً تبدأ في 21 كانون الأول، وتنتهي في 30 كانون الثاني، وهي العمود الفقري لفصل الشتاء، ففيها البرد الشديد والثلوج والأمطار الكثيرة، وعُدّت المؤشر الذي يدل على جودة الموسم الزراعي وكميته، فإذا كانت “المربعانية” ماطرة، فإن ذلك يعني أن الموسم وفير هذا العام وبالعكس، حيث كان يؤكد المسنون من خلال تجربتهم أن دخول المربعانية ببرد وجفاف من دون أمطار، يعني أن معظم أيامها ستكون باردة، وبالعكس إذا كانت مسبوقة بأمطار، فستكون معظم أيامها ممطرة؛ مستندين إلى إرث من خبرات الآباء والأجداد الذي يمتد إلى مئات السنين.
وقد قيل في المربعانية الكثير من الأمثال الشعبية ومنها: “المربعانية يا بتربع يا بتقبع”، و”بتربع” بمعنى تسمن لكثرة المطر والعشب، و”بتقبع” تضعف وتزول لقلة المطر والعشب. و”المربعانية يا شمس بتحرق يا مطر بيغرق”، وهذا المثل يدل على ارتباط المردود الطيب بكمية المطر الهاطل خلالها، فتكون سنة خير؛ لأن المربعانية في “كوانين” وهما شهرا المطر الغزير والأساسي في فصل الشتاء.
الخمسينية
أما بالنسبة للخمسينية، فإن مدتها 50 يوماً تبدأ من الأول من شهر شباط، وتنتهي في 21 آذار، حيث تكون حدة الشتاء قد خفت؛ لذا قيل عن شهر شباط : “شباط لو شبط أو لبط ريحة الربيع فيه”؛ أي إنه عندما يأتي شهر شباط ترتفع معدلات درجات الحرارة أكثر من “كوانين”؛ لأن المربعانية تكون قد انتهت، وعلى الرغم من أنه في “الخمسينية” ترتفع درجة الحرارة نسبياً عنه في “المربعانية”، إلا أنه قيل فيه أمثال شعبية للدلالة على استمرار الشتاء فيه ومنها: “آذار 7 ثلجات كبار ما عدا الصغار”؛ وذلك للدلالة على أن فصل الشتاء يستمر حتى نهاية آذار، وكذلك: “ان غلّت وراها آذار، وان محلت وراها آذار”؛ وذلك للدلالة على أن شهر آذار تتوقف عليه جودة الموسم أو سوئه، إضافة إلى أن أجدادنا عدّوا الأيام السبعة الواقعة بين نهاية شباط وبداية آذار (آخر 4 أيام من شباط، وأول 3 أيام من آذار) أياماً باردة، ويظهر ذلك من المثل الشعبي الشائع في تلك الأيام: “آذار يا عيوني ثلاثة أيام واقرضوني لوقد هالعجايز دواليبها.
وتقسم الخمسينية إلى أربعة سعود(سعود (سعد الذابح، سعد بلع، سعد السعود، سعد الخبايا)، وكل سعد مدته 12 يوماً، والمستقرضات 7 أيام، وتقع ضمن الخمسينية، وكل مناسبة قيل فيها بعض الأمثال.
ويعود إطلاق مصطلح سعد الذابح الى حكاية شعبية تقول: إن شخصاً اسمه سعد عزم على السفر في نهاية الأربعينية في يوم دافئ، فنصحه والده أن يتزود بفراء وقليل من الحطب اتقاء البرد المحتمل والمطر، فما سمع نصيحة والده، وكان يظن أن الطقس لن يتغير، بحكم أن الجو في ذلك الوقت كان دافئاً ركب ناقته وسافر وبعد يومين من السفر نظرت والدته شمالاً فرأت الغيوم الشمالية فخافت على ولدها سعد، فشكت فأجابها (إن ذبح سعد سلم وان لم يذبح هلك) وما أن بلغ سعد منتصف الطريق الى حيث يقصد، حتى أكفرت السماء وتلبدت بالغيوم وهبّت ريح باردة وهطل مطر وثلج غزير، فلم يكن أمامه سوى ذبح ناقته وهي كل ما يملك، حتى يحتمي بأحشائها من البرد القارص والنجاة بنفسه. لذلك ذبح الناقة فسمي سعد الذابح.
سعد البلع: من ظهر يوم الثاني عشر من شهر شباط ولغاية ظهر يوم الرابع والعشرين من نفس الشهر، وهو كناية عن الأرض في تلك الفترة، تبتلع ما يسقط عليها من أمطار نتيجة ابتداء درجات الحرارة، وسمي بالعاً كأنه بلع الآخر، وفي وقته تفيض الأنهار وتزيد الآبار كأن الأرض ابتلعت ماءها، وقيل فيه: “بسعد بلع بتنزل النقطة وبتنبلع”
سعد السعود: من ظهر يوم الرابع والعشرين من شهر شباط إلى ظهر يوم الثامن من شهر آذار، بعد أن انتهت العاصفة، أشرقت الشمس وأصبح الجو دافئاً، فشعر سعد بالفرح واحتفل لنجاته من العاصفة ومن البرد
أما سعد الخبايا وهو الجزء الأخير من السعوديات، ويمتد من ظهر يوم الثامن من شهر آذار وينتهي يوم الواحد والعشرين من الشهر ذاته. فكما تشير الحكاية التراثية أن سعد قام بصناعة معطف له من فرو الناقة التي ذبحها، كما أخذ من لحم الناقة المتبقي وخبأه خوفا من أن تتكرر العاصفة مرة أخرى. خلال أيام سعد الخبايا تبدأ الزواحف التي كانت تقضي فترة السبات الشتوي بالظهور، ويسمّى أيضاً “سعد الأخبية” لخروج المخبآت فيه من الثمار والحشرات، وقيل فيه: “في سعد الخبايا بطلعن الحيايا”
وأيضاً المستقرضات سميت(أيام العجوز) لأنها تقع في عجز الشتاء؛ أي آخره، وهي (أربعة من آخر شباط، وثلاثة من أول آذار )، وتمتاز في أغلب الأحيان بالمطر الشديد والفيضانات، وهبوب الرياح الشديدة، والبرد القارس، ويسميها العامة “برد العجوز”؛ أي (الطا
