“ود” التونسي يحصد الجائزة الكبرى في مهرجان فاس لسينما المدينة بالمغرب
حكاية من واقع المجتمع التونسي
فاس (المغرب) – فاز الفيلم التونسي “ودّ” للمخرج حبيب المستيري بالجائزة الكبرى للأفلام الروائية في الدورة التاسعة والعشرين لمهرجان فاس لسينما المدينة، خلال الحفل الختامي الذي انتظم يوم السبت 22 نوفمبر 2025.
وبحسب تقرير لجنة التحكيم، جاء هذا التتويج تقديرا لجرأة الفيلم على إعادة قراءة مرحلة سياسية حساسة من تاريخ تونس، ولقدرته على تحويل وجع جيل كامل إلى لغة سينمائية عميقة وصادقة. كما أثنت اللجنة على الأداء التمثيلي المتماسك والمعالجة البصرية الهادئة للفيلم، إلى جانب تناوله الشجاع لقضايا الحرية والالتزام الفكري.
وأكدت اللجنة أن “ودّ” يبرهن على قدرة السينما على ملامسة الذاكرة، وتحويل الألم إلى شهادة فنية تستحق الاحتفاء، بما يساهم في تجديد صلتها بالبعد الإنساني والرمزي ويتجاوز الأطر المحلية نحو جمهور أوسع.
وقد كرّم المهرجان المخرج حبيب المستيري خلال الافتتاح، في اعتراف بمساره السينمائي وحضوره في المشهد العربي.
يشكّل هذا التتويج محطة جديدة تُعزّز حضور الإنتاجات التونسية في المهرجانات المغاربية والدولية، وتؤكد مكانة السينما التونسية كصوت فني قادر على استعادة الذاكرة وصياغة أسئلتها الكبرى.
ولد المخرج التونسي حبيب المستيري في تونس العاصمة، وتلقى تعليمه الفني في الخارج، حيث درس فنون الإخراج المسرحي والسينمائي في مدرسة السينما في باريس. هذا التكوين الأكاديمي المتخصص في العاصمة الفرنسية منحه أساساً قوياً ورؤية عالمية، وهو ما انعكس لاحقاً على أسلوبه في الإخراج المسرحي والتلفزيوني، الذي تميز بالاحترافية والعمق الفني. ورغم أن تاريخ ميلاده بالتحديد ليس متوفراً بسهولة في المصادر العامة، فإن مسيرته الفنية الغنية تشير إلى أنه ينتمي إلى جيل المخرجين الذي بدأ عطاؤه الفني في فترة السبعينات والثمانينات من القرن الماضي.
يُعدّ أحد الأسماء المخضرمة التي أسهمت في إثراء المشهد الفني التونسي، متمرساً في حقلي الإخراج المسرحي والتلفزيوني على حدٍ سواء، وقد عُرف بأسلوبه الذي يميل إلى الواقعية والاهتمام بأدق تفاصيل الشخصيات، مما جعل أعماله تحظى بمتابعة جماهيرية واسعة.
وتدور أحداث فيلمه “ودّ” في 76 دقيقة حول قصة “خليل” الصحافي اليساري الذي كرس حياته للدفاع عن العدالة وقضايا المظلومين، لكنه يتحول نتيجة القمع والفساد إلى “دونكيشوت” يطارد أطيافا لا تهدأ في عالم تبددت فيه القيم الإنسانية وانهارت الروابط الصادقة.
الفيلم يصور واقعا تهيمن عليه قيم الربح والمنفعة، حيث تحولت المشاعر والعواطف إلى سلع تباع وتستهلك. وقد تلاشت وسط هذا التحول القيم الإنسانية والروابط الصادقة تاركة فراغا تصطدم فيه الأوهام بالحقائق القاسية.
تتويج جاء تقديرا لجرأة الفيلم في إعادة قراءة مرحلة سياسية حساسة من تاريخ تونس وتحويل وجع جيل كامل إلى لغة سينمائية
ويوازن الفيلم بين الواقعية والرمزية. وتبدأ القصة بتصوير الجهود النبيلة للدفاع عن العدالة، لكنها تتحول تدريجيا إلى رحلة سوداوية تكشف هشاشة الإنسان أمام جبروت نظام المادة.
ويستثمر الفيلم الرموز والدلالات في مشاهده لتقديم رؤية نقدية للمجتمع، فالصور الفوضوية مثل المكتب المليء بالأوراق وصناديق الأرشيف، تجسد الواقع الفوضوي الذي يعيش فيه خليل حيث تعكس هذه الخلفيات إشارة للبيروقراطية والعالم الفوضوي الذي تضيع فيه القيم والحقيقة، كذلك في المشهد الذي يحارب فيه خليل الأوهام حاملا السكين أمام ستارة مضرجة بالدماء وهو ما يحيل على العنف الداخلي والخارجي الذي يعيشه البطل في محاولاته غير المجدية لمواجهة الفساد والقمع.
ويتميز الفيلم أيضا من الناحية الفنية والإضاءة بالقتامة والظلال الكثيفة في العديد من المشاهد، وقد أحسن المخرج حبيب المستيري توظيفها لإيصال مشاعر اليأس والتشاؤم التي تغلف الشخصيات والعالم الذي يصوره الفيلم. كما بدت الظلال انعكاسا لصراع داخلي بين جملة من المتناقضات كالنور (القيم الإنسانية) والظلام (الواقع المادي والفساد) وبين القيم النبيلة والأوهام التي تسود الواقع.
واستخدم المخرج حبيب المستيري فنيات إخراجية متقنة لجعل القصة تنبض بالحياة، فاللقطات القريبة والإضاءة الطبيعية تنقل شعور الضغط النفسي والاجتماعي الذي يعاني منه خليل. أما عنصر السرد، فلم يقتصر على القصة الظاهرة بل تميز بالرمزية حيث أصبح كل مشهد يعكس أبعادا اجتماعية ونفسية.
وعلى صعيد الأداء، برع طاقم العمل في نقل أبعاد الشخصيات المعقدة، وقد قدم أحمد أمين بن سعد دور خليل بأداء مشحون بالأحاسيس والعواطف، إذ جسّد التحول النفسي للبطل من صحافي ملتزم إلى رجل تطحنه الأوهام والحقائق القاسية.
ويدعو المخرج في “ودّ” إلى التأمل في ما أصبح عليه العالم اليوم من انهيار القيم، ومن خلال رحلة خليل، ينتقد الفيلم الواقع الذي طغت فيه المادة فانهارت العدالة والقيم الأخلاقية والإنسانية.
صحيفة العرب
مجلة ايليت فوتو ارت

