يروانت هواريان: ما زلت أرسم يدويًّا
الكاتبة منى سكرية
قبل أن تدهمه الثورة الرقمية، ومخاوف النسخ واللصق، حقّق يروانت هواريان إبهارًا في عالم الإبداع البصري الفني بريشته، بكل مقاييسها، وأطنانًا من ألوان تميّزت بالصخب. فمنذ عام 1964 وإلى اليوم أنجز ألوف اللوحات الزيتية التي جسّدت ملصقات أفلام سينمائية، ووجوه (بورتريه) شخصيات سياسية ورؤساء، وفنانين، ومعاناةِ شعبه الأرمني. ولقد حوّل الملصق التجاري إلى عمل فني/ ثقافي يحكي سيرة ماضٍ جميل، مرسوم يدويًّا؛ استعاده ملتقى دلّول للفنانين في معرض ملصقات أفلام سينمائية لم تبارح الذاكرة (من 14 تشرين الثاني/ نوفمبر 2025 إلى 3 كانون الثاني/ يناير 2026، في محلة المرفأ في بيروت).
وعلى هامش هذا المعرض، والذي ستتبعه معارضُ لوحاتٍ لهواريان لوجوه شخصياتٍ وزعماء، ثم لفنانين، كانت هذه الدردشة الحوارية معه:
“أنا من مواليد مدينة القامشلي/ سورية عام 1949. أتيتُ وأهلي إلى لبنان عندما حصل التأميم في سورية، وكنتُ في الـ 12 من عمري. كان والدي يملك مساحاتٍ من الأراضي والمطاحن وتمت مصادرتها، فأصبحنا لا نملك شيئًا. أقمنا في محلة برج حمود من ضواحي العاصمة بيروت، حيث الوجود الأكبر لأبناء الطائفة الأرمنية بعد نزوحهم إثر المجازر بحقهم. من ذاك العمر بدأت أرسم ملصقات دار السينما في المحلة، لأن العمل في دور سينما العاصمة يحتاج إلى رسامين كبار، إلى أن أتى عرض ممدوح آغا، صاحب سينما ريفولي، على طبق من ذهب. بعدها بدأت العمل في ساحة الدباس بقلب العاصمة بيروت. كان ذلك مطلع السبعينيات من القرن الماضي، عندما أتى الأخوان مانويل وشارل كريمونا، شقيقا المطربة سميرة توفيق، يطلبان إنجاز ملصق حفلة ستقيمها… من يومها صرت رسّامها الخاص”.(*) سميرة توفيق من أين؟
والدها من مالطا، وقد نالوا الجنسية اللبنانية أيام الرئيس الراحل فؤاد شهاب في ستينيات القرن الماضي.وتابع:”بعدها انطلقتُ في عالم رسم كبار الفنانين جميعهم. أما ملصق السينما الذي كسّر الدنيا فكان صورة طفل يبكي لفيلم هندي أمام سينما ريفولي. بعد ذلك بدأت عروضُ رسم ملصقات الإعلانات التجارية، ومنها أذكر إعلانًا لمعرض مأكولات دانماركية في فندق سان جورج عام 1969. وبسبب نجاحه انتقل المعرض إلى دولة الكويت. كما أن ملصق عرق كفريا نافستُ به في دولٍ أوروبية كإيطاليا وفرنسا وإسبانيا. ثم توالت عروضُ رسم وجوه الشخصيات السياسية.(*) من اعترض من الفنانين على رسمك وجهه؟
كنت أشتغل للأخوين رحباني ملصق مسرحية “لولو” للسيدة فيروز والأخوين رحباني. لكن ألوان الملصق لم تعجب السيدة فيروز، فعملتُ على تغيير الألوان.
(*) وماذا عن سلوكيات الفنانين بالتعاطي معك؟
أخلاق سميرة توفيق حلوة، وهي متواضعة، وكريمة. أيضًا فريد الأطرش يتمتع بأخلاقيات نبيلة، ويمتلك حسًّا فكاهيًا، ومترفّعًا عن صغائر خلافات الفنانين. ذات يوم، وكان والدي قد هدّدني بالطرد من البيت إذا ما بقيت أعمل في مهنة الرسم باعتبار أنها لا تُطعِم، وصل فريد الأطرش ومعه صاحبته نهلا القدسي، فاندفع والدي تجاهه يشكره لأنه طلب مني أن أرسمه، فأجابه فريد: “أنا من يجب أن أشكر ابنك لأنه يعمل معي”. لم ألتقِ فنانًا بخيلًا، لأن البخل من سمات متعهدي الحفلات؛ فهم يحققون أرباحًا طائلة ثم يقولون: خسرنا، ويأكلون حقوقنا. عبد الحليم حافظ كان متواضعًا وخلوقًا. أما صباح فكانت جميلة وسخيّة ومهضومة.
أذكر أنني ذهبت عام 1975، بعد بدء الحرب الأهلية في لبنان، مع سميرة توفيق إلى دمشق كي تحيي حفلة. في الفندق أتى المخرج طوروس سيرانوسيان وطلب مني رسم ملصق مسرحية صباح “ستّ الكل” والتي ستُعرض في معرض دمشق الدولي في ذاك العام. كنتُ أجيد تصميم فكرة الملصق وليس رسمه فقط، كما أنني كنت أرسم 50 لوحة ملصق مطابقة لبعضها يدويًّا، لغياب طباعة الألوان والنسخ ورقيًا.
وفي أحد الأيام، وصل إلى الفندق أشخاص وطلبوا مني مرافقتهم من دون الإفصاح إلى أين ولا من هم، وإن كنت قد شعرت أنهم رجال مخابرات. ذهبنا إلى العميد مسؤول الدعاية والإعلان التابع للدولة، فبادرني بالقول: “أنت زينّت شوارع الشام”. السبب أن ملصق صورة الفنانة صباح كان ناجحًا وبالألوان الصاخبة.
رسمتُ أم كلثوم لإحدى حفلاتها بمهرجانات بعلبك بمنتصف ستينيات القرن الماضي. أخبروني أنها أعجبتها. كذلك رسمتُ فنانين كانوا مغمورين يومها وأصبحوا نجومًا لاحقًا. كانت تأتي بهم سميرة توفيق لإطلاقهم. ومنهم محمد عبدو، وسعدون جابر، وإلياس خضر، وغيرهم. وأنا من أطلق وصف “شيخ الملحنين” على فيلمون وهبي.(*) ألم تحتفظ بنماذج من هذه اللوحات؟
راح المحل خلال الحرب الأهلية، واحترق في وسط بيروت التجاري، واحترقت محتوياته كلها.
(*) كيف انتقلت إلى رسم الرؤساء والشخصيات السياسية؟ وهل كانوا هم يبادرون بالطلب منك؟
أول لوحة بورتريه رسمتها لشخصية سياسية كانت للرئيس صائب سلام عام 1971، بناءً على طلب الأخوين عيتاني، أصحاب سينما ومسرح البيكاديللي. كانت أجمل صورة له مع القرنفلة على صدره، بسبب حركة معيّنة افتعلتها لحظة الضغط على فلاش الكاميرا وأحدثت نقزةً في ملامحه.
ثم رسمت الرئيس كميل شمعون، وهو من أتى إلى المرسم عندي. كان ذلك بعد بدء الحرب الأهلية عام 1975، وتمّ تعليق الصورة على مبنى عالٍ عند تقاطع جسر النهر/ الكرنتينا من بيروت الشرقية، ولكن بعد فترة أصيبت اللوحة بصاروخ فتمزقت وسقطت. كانت بارتفاع 6 أمتار وعرض 8 أمتار.
“بالنسبة للثورة الرقمية أقول: لكلّ ميدانه. ما أزال أرسم يدويًّا، وأعمل لساعات ممتدة في مرسمي”
(*) ومن الجهة التي قصفت اللوحة؟
آل الجميل على ما يبدو، بعد الاشتباكات مع جماعة نمور الأحرار. بعدها أرسل بشير الجميل ورائي، وطلب مني أن أرسم والده الشيخ بيار الجميل، ورفعوها على مبنى في محلة الدورة شرق بيروت، ولكن كانت أصغر حجمًا من لوحة شمعون. أيضًا رسمت بشير، تلك اللوحة المرفوعة له في ساحة ساسين بمحلة الأشرفية شرق بيروت.
ورسمتُ الرؤساء: رفيق الحريري، إلياس الهراوي، نبيه بري، سليمان فرنجية، إلياس سركيس، إميل لحود، وميشال سليمان، وحاليًا الرئيس جوزف عون، والرئيس نواف سلام بناءً على طلب ابنة أخيه.(*) من أخذك إلى رسم الرؤساء العرب؟
الملك فيصل عند مجيئه لزيارة لبنان في الستينيات.(*) هل كان رجال الدين يطلبون منك أن ترسمهم؟ ومن رسمت من زعماء أجانب؟ وهل رسمت معاناة شعبك الأرمني؟
رسمتُ المفتي حسن خالد بعد اغتياله، بطلب من ابنه. ورسمتُ الإمام السيد موسى الصدر عندما كان يأتي إلى الحسينية في محلة النبعة بجوار برج حمود، وكان معه نبيه بري. كان بري شابًا صغيرًا حينها، وأنا كنت أصغر عمرًا منه. لم أرسم من الرؤساء الأجانب سوى جون كينيدي. وبالتأكيد رسمت معاناة شعبي الأرمني والمجازر التي لحقت به.(*) لا بد أن عندك خبريات كثيرة وراء الكواليس عن زعماء وفنانين؟
لا أستطيع أن أحكي عن السيئات. ولكن “يا ما في السجون من مظاليم”.(*) هل رسمت ملكات جمال لبنانيات؟
نعم، رسمت جورجينا رزق عندما انتخبوها ملكة جمال الكون، وعندما شاركت بأول فيلم سينمائي. أتذكر أن والدتها قالت باندهش عندما رأت اللوحة: إنها أجمل من ابنتها!(*) من أجمل ممثلة وممثل رسمتهما؟
هند رستم، ومريم فخر الدين، ومديحة يسري، وسعاد حسني. وهناك ناديا جمال، وهي سيدة راقية. كلهن يتمتعن بجمال خاص. كان جمالهن طبيعيًا وليس محشوًّا بالسيليكون!(*) كيف تعامل معك الإعلام؟ وكيف حالك مع الثورة الرقمية؟
للأسف وسائل الإعلام المحلية لم تهتم بي كما فعلت الوسائل الأجنبية، وخاصة الألمانية. وبالنسبة للثورة الرقمية أقول: لكلّ ميدانه. ما أزال أرسم يدويًّا، وأعمل لساعات ممتدة في مرسمي.


