في عروض”المسيح الأندلسي”: الروائي يتجاوز المؤرخ
بشير البكر
تيسير خلف روائي مثابر أصدر روايات عدة بات لها حضورها في المشهد الروائي العربي، بفضل المضمون، والشكل الجديدين. وهو، في أعماله، يستند على التاريخ كأحداث، يبني عليها، أو يؤولها، ويقرأها بلغة وخيال الزمن الحاضر المفتوح نحو المستقبل. وضمن هذا السياق، تأتي رواية “المسيح الأندلسي”، آخر أعماله الصادرة عن “دار المتوسط”، والتي وصلت لدور التصفية النهائية في “جائزة البوكر” للرواية العربية في دورتها الأخيرة.رواية غير تقليدية، بداية من الاسم، الذي يقود إلى ما هو أبعد من الفضول، نحو إثارة الأسئلة حول ما يقصده الكاتب من ذلك، لا سيما وأنه قدم في أعمال سابقة نظرة جديدة إلى أحداث وشخصيات نفض عنها غبار الوقت، وأضاء عليها على نحو سمح باكتشاف تفاصيل لم تكن معروفة. وقد أفاد ذلك في وضعها في مقام جديد يمكن بفضله فهم كثير من تاريخ وأحداث زماننا.حتى تسهل عملية قراءة وتتبع أحداث واتجاهات تطور وفهم سياقات، وتفكيك تشابكات هذه الرواية المتشعبة، تتوجب الإشارة إلى أن هنالك تيارين يتداخلان فيها، الوعي التاريخي، والحس البوليسي. وهذا يستدعي وضع مخطط تعريفي بالشخصيات والأمكنة والأزمنة الرئيسية، مع الأخذ في عين الاعتبار أن الرواية مكتوبة بالاعتماد على عدد من المخطوطات الأندلسية والمغربية والمشرقية والخيميادو (لغة قشتالية بحروف عربية أندلسية)، وكلها من مطبوعات القرن السابع عشر. وعلى هذا، يتأرجح المكان بين محطتين، الأولى هي إسبانيا، ذات المسمى التاريخي مملكة إشبانيا، والثانية هي إسطنبول، أو اسطنبل في الوثائق القديمة. والزمن هو مرحلة محاكم التفتيش، عندما تصاعدت عمليات ترحيل الموريسكيين من الأندلس، ومطاردة الباقين منهم، الذين دخلوا الدين المسيحي، وغيروا أسماءهم العربية، واستبدلوها بأخرى إسبانية.الشخصية الرئيسية في العمل هو العلامة محمد بن أبي بكر العاص الأندلسي، طبيب زمانه وحكيم عصره، يرد اسمه مختلفًا في عدد من الوثائق، وكذلك الأمر في محاكم التفتيش. يعيش في إسطنبول تحت اسم قشتالي هو دون بيراث إل شابيز، ويدور احتمال أن يكون هو خيرونيمو راميرز متنكرًا، بعد أن اعتنق الإسلام، ما أثار السؤال لدى الشخصية الثانية، عيسى بن محمد الأندلسي، واسمه القشتالي خيسوس غونثالث، وعمره 22 عامًا، متخرج في جامعة سانتا كاتالينا، ويحمل شهادة في القانون والآداب واللاهوت، دأبه هو الثأر لوالدته مريانا، التي أعدمت حرقًا بعد أن سجنت في قبو تعذيب يتبع الكنيسة الكاثوليكية. يبحث في إسطنبول عن عدوه اللدود، الراهب الجزويتي دون خيرونيمو راميرز، الذي لا يعرف شكله، ولم يسبق أن التقاه، ويكشف عن دوره في “ملف محاكمة أمي” 1592، ويتبين أنه هو المدعي العام الذي ساق التهم المنسوبة لها بالهرطقة. ومن بعد ذلك، صار قريبًا من القصر الملكي، الذي كلفه بسفارة إلى ملك فرانصه (فرنسا) هنري الطيب، ومن بعدها سافر في مهمة إلى الفاتيكان، حيث انقطعت أخباره بعد ذلك. وقد تبعه إلى هناك وسأل عنه فقالوا له إنه قصد البندقية، ولم يكن ذلك صحيحًا.
“لا تتكئ الرواية على التاريخ عبثًا، أو من باب الفانتازيا، ولا يكلف الكاتب نفسه عناء كتابة عمل روائي بالانطلاق من أحداث ووثائق تاريخية، من دون أن يرمز إلى الحاضر والمستقبل”
شخصيات أخرى تتحرك داخل العمل، التاجر الغرناطي بدر بن الحكم، الذي يعمل في التجارة بين البندقية وإسطنبول. حاجي رمضان يسكن حي بلاطية في الطرف الآخر من الخليج الذهبي، وهو من جماعة الشيخ محي الدين بن عربي، وتاجر حرير وابنه علي رضا يحتكر تجارة الحرير في بورصة، المختار الغساني، أحد شيوخ الجماعة، الذي أخبره بأنه تم عزل الأشقر من قبل الجماعة في طليطلة، وبايعوا الشيخ الأكيحل الأندلسي. الشيخ الأشقر سافر إلى الفاتيكان، واطلع على ألواح مفبركة بمزاعم دينية ترقى إلى جعل النبي محمد مسيحًا جديدًا، وأن الكاتب هو الشيخ الأكيحل، الذي كتب على الهامش أن المسلمين يؤمنون بالثالوث، وأن حقيقة الثالوث مثبتة في القرآن، حسب ما يقول هؤلاء. ومن بين الطرائف في تلك الأيام نسب رواية دون كيخوت، التي كتبها سيرفانتس، إلى الشيخ أحمد البياسي المعروف عند الإسبان باسم ميغيل دي لونا، صاحب قصة الملك رودريغوا. ويقول هؤلاء إن سيرفانتس قلب اسم أحمد إلى هاميت، وذلك لأن القشتاليين لا يستطيعون لفظ كل الأحرف العربية.لا تتكئ الرواية على التاريخ عبثًا، أو من باب الفانتازيا، ولا يكلف الكاتب نفسه عناء كتابة عمل روائي بالانطلاق من أحداث ووثائق تاريخية، من دون أن يرمز إلى الحاضر والمستقبل. وهذا لا يعني، بأي حال من الأحوال، توظيف الوثيقة على نحو تعسفي من أجل البرهنة على مسألة راهنة، بل هنالك إحساس بقيمة خاصة لإعادة قراءة التاريخ من أجل فهمه، وعدم تكرار أحداثه، وخصوصًا نكساته وهزائمه. وضمن هذا السياق يمكن أن نلمس وجوهًا عدة وقراءات محتملة للرواية.الأولى، إعادة قراءة تاريخ حقبة نهاية القرن الخامس عشر، عصر محاكم التفتيش، وحملات التهجير الواسعة لكل من هو غير مسيحي من مملكة إسبانيا. وتتركز أهمية ذلك في أنها مرحلة مؤسسة في تاريخ أوروبا والعالم العربي، بعد خروج العرب من الأندلس، وما حل بهم بسبب الانقسامات التي عاشوها، ومن ثم ما ترتب على تلك الأحداث التاريخية من صياغة الجغرافيا السياسية والثقافية لضفتي البحر الأبيض المتوسط. والثانية، قراءة الزمن الحاضر على ضوء تلك الفترة المظلمة، التي دمرت أواصر التعايش بين المكونات في إسبانيا المسيحية، المسلمة، اليهودية، حيث يقوم الكاتب بتسليط الضوء على كليشيهات العنصرية الراهنة عن نقاء الدم، والتمييز العرقي والديني، وهو ما يشكل رأسمال اليمين العنصري المتطرف. والثالثة، إسقاط بعض تفاصيل ذلك الماضي على الزمن الحاضر، فالسجون في محاكم التفتيش مراكز للتعذيب وانتزاع الاعترافات والقتل. ولا يجد القارئ مفرًا من المقارنة مع معتقلات النظام السوري السابق، وتبدو بعض الأساليب والأدوات مستنسخة من هناك. وهذا يعني ان كثيرًا من سلوكيات الشعوب لم تتغير، فالعرب يعيشون ببهرجة رغم ما يمرون به من مأساوية، على عكس جيرانهم الأتراك الذين يتصفون بالتقشف.وفي القراءة الرابعة، تبرز انتهازية بعض رجال الدين، الذين يغيرون أصولهم وأسماءهم ومعتقداتهم من أجل مصالح ذاتية، والخوف من مواجهة الحاكم المستبد، فينكرون أقرب الناس إليهم. وهذا سلوك تكرر في الماضي البعيد، واستمر في الوقت الراهن، ولا يزال ضرره يلقي بثقله على حياة الناس، ولم تتخلص منه أوروبا، إلا بعد الفصل بين الدين والدولة، وإنهاء تدخل الكنيسة في الحياة السياسية، وشؤون الحكم.الخامسة، تتعلق بهجرة الموريسكيين من إسبانيا إلى البلاد الإسلامية، في حين أنهم مواطنون إسبان. وهذا أمر يطرح أسئلة كثيرة حول حملات التهجير التي تعرضت لها شعوب عربية عدة، في فلسطين، وسورية، والعراق، ولبنان، ومدى القدرة على التكيف والصمود في المكان أمام حملات الترهيب من قبل قوى احتلال خارجية.وتسلط القراءة السادسة الضوء على عالم وسلوك الأقلية حينما تستشعر الخطر، أو تستدعيها الظروف للحفاظ على الذات وحمايتها، ومن ذلك اتباع سلوك التحفظ والتقية، والانطواء، بحيث يغلب الاستماع على الحديث، والشك على الثقة، والوشاية على الكتمان.وفي القراءة السابعة والأخيرة، نلاحظ أن نزاعات العرب لا تزال تكرّر نفسها، وخاصة لجهة ادعاء التفسير السليم للدين، وتكفير الآخرين على ضوء ذلك. واللافت أن اللغة المستخدمة في ذم الآخر لم تتغير، وهي غالبًا تتكئ على قاموس ديني أخلاقي جاهز وجامد يسقط قواعد الاختلاف من حسابه، ويحكم على الطرف الآخر بالإعدام من دون محاكمة. وفي الرواية صراع بين شيوخ طليطلة حول بقاء أو هجرة المسلمين، الأشقر مع الأكيحل، وكلاهما يتهم الطرف الآخر بأنه خرج من الملة. وفي مرحلة تتغلب جماعة الأكيحل، وتعزل الأشقر، وتقرر قتله. ولكنها بعد فترة تختفي من الواجهة، ويظهر بأن الأشقر يمتلك رواية متماسكة، ومسألة ترحيل المسلمين من تلك الديار محقة كي يحافظوا على دينهم.يتجلى بوضوح في أعمال تيسير خلف الروائية السابقة الصراع بين الروائي والمؤرخ، كل منهما يشد الكاتب إلى مساحته الخاصة، ويحاول أن يستأثر به. الأول يريد منه أن يصنع من التاريخ طبخة يتحرر فيها الخيال من كل الضوابط، والثاني يشده إلى الصرامة والأمانة التي تحترم مرجعية التفاصيل. ويبدو هذا النمط من التجاذب طبيعيًا لدى كاتب مثل تيسير، يرى العالم من باب التاريخ، ولا تترك له وطأة الأحداث أن يشرع نوافذ الخيال بلا حدود. علمه الحدث التاريخي أن كل واقعة تقاس بموازين محسوبة، ولكن نصوصه الروائية كانت تشي بأنه يتعامل مع ذلك كقدر لا فكاك منه، ولذا عمل على توسيع المساحة الخاصة بالروائي تدريجيًا، ومن عمل لآخر بدأت تكبر، حتى بات الروائي في هذا العمل يقود المؤرخ إلى المكان الذي يريده من دون أن يخل بالقواعد الأساسية. ويظهر بوضوح تراجع يقين المؤرخ لصالح الشك عند الروائي، الذي تحدث بحرية أكثر، وطرح أسئلة فلسفية عن الخطيئة والعقل، ودخل مناطق محظورة على المؤرخ.
ضفة ثالثة


