نقد فكرة”حكمة الجمهور”.من المنظور الفلسفي والتاريخي.

،،، المنظور الفلسفي والتاريخي: نقد فكرة “حكمة الجمهور”
منذ البدايات الأولى للفكر السياسي، شكك كبار الفلاسفة في قدرة رأي الأغلبية على تمثيل الصواب دائمًا.

— سقراط: رأى أن الديمقراطية تقدر العدد على حساب المعرفة، مما قد يقود إلى فوضى حين تتخذ الجماهير قرارات في حالة من الجهل، بينما يكون الأفراد المنفردون أكثر حكمة.

— أفلاطون: انتقد الديمقراطية بشدة، معتبرًا أنها نظام “يُديره بعض الحمقى”، لأنها تخلق مساواة اصطناعية بين المواطنين، فتساوي في الوزن بين صوت الخبير وصوت الجاهل. وكان يشبه ذلك بمريض يستمع لنصائح الأغلبية بدلاً من طبيب متخصص، مما قد يؤدي إلى كارثة.
— أرسطو: صنف الديمقراطية ضمن أشكال الحكم المنحرفة، لأنها قد تتحول إلى “حكم طغياني مقسم على عدة أفراد”، حيث تطغى أهواء الشعب على المصلحة العامة.

هذا النقد الفلسفي القديم يظهر بقوة في التجارب الحديثة، مثل استفتاء خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي (بريكست)، حيث رأى كثير من المحللين أن قراراً مصيرياً اتخذ بناءً على حملات إعلامية مضللة وجهل نسبي بطبيعة الاتحاد الأوروبي، ليتحول لاحقًا في نظر الكثيرين إلى “كارثة”.

— المنظور النفسي والاجتماعي: لماذا تذوب الشخصية في الجماعة؟
توجد ظواهر نفسية قوية تفسر تحيز المجموعات ضد الرأي الفردي المخالف، حتى لو كان صائبًا. أهمها:
،،، تفكير الجماعة (Groupthink): ظاهرة تحدث في المجموعات المتماسكة، حيث رغبة الأعضاء في الوئام والاتفاق تطغى على تقييم البدائل والحقائق بواقعية ونقدية. ينتج عن ذلك وهم المناعة (الاعتقاد بأن القرار لا يمكن أن يكون خاطئًا)، وضغوط نحو التوافق،، ورقابة ذاتية، حيث يكبح الفرد أفكاره المخالفة لتجنب هز الاستقرار الجماعي.
— العقل الجمعي أو ثقافة القطيع: وهي استجابة غير عقلانية لما تردده الجماعة، حيث يفترض الفرد أن ما يفعله أو تقوله المجموعة هو الصحيح بمجرد كونه رأي الأغلبية، متخليًا عن التفكير النقدي الخاص به. هذه الظاهرة تُضعف الذات الفردية لصالح انتماء المجموعة.
— التحيز المعرفي (Cognitive Biases): تؤثر مجموعة من التحيزات على حكم المجموعات، مثل “وهم الصحة” و”تجاهل الاحتمال” و”الانحياز للسلطة”، مما قد يقود إلى قرارات خاطئة.

— رؤية متكاملة: كيف نفهم التعارض؟
إن تقديم رأي الجماعة ليس بالضرورة “منطقًا أخرق”، بل هو محصلة لترتيبات اجتماعية وسياسية تهدف للاستقرار، لكنها معرضة للخلل.

،،، منطق الجماعة (في الديمقراطية المثالية): الفكرة الأساسية هي أن الشرعية والاستقرار الاجتماعي اللذين يوفرانهما عملية القرار الجماعي (مثل التصويت) لهما قيمة عالية. فالهدف ليس فقط الوصول للحقيقة المجردة، بل بناء قرار ملزم ومقبول من قبل الأغلبية حتى لو لم يكن مثالياً. أما تأكيد الفرد على يقينه، فيمكن تفسيره من منظور نفسي (وهم المناعة للفرد) أو منظور فلسفي (إيمان الفرد بالحقيقة المطلقة). لكن اليقين الذاتي، مهما كان قوياً، ليس دليلاً موضوعياً على الصحة للآخرين.

— محصلة الصراع: عندما تتعارض هذه العناصر، قد تنتصر آليات الحفاظ على تماسك المجموعة واستقرار النظام (التي تفضل التوافق) على الحقيقة الفردية أو المثالية. هذا ما يفسر أن المجموعات أحياناً تحمي قراراتها حتى بعد ظهور أدلة على خطئها ..

،،، ختامًا: أين يكمن الحل؟

المعضلة ليست في اختيار بين الفرد والجماعة، بل في بناء أنظمة ومناخات اجتماعية تتجنب سلبيات كليهما.
بناء مؤسسات مقاومة: تصميم عمليات صنع القرار لتشجع التفكير النقدي والتنوع، وتستمع للخبراء، وتتجنب العزلة الفكرية.
تربية الفرد الواعي: تشجيع العقل النقدي والبحث عن المصدر الموثوق، والتحرر من الاستجابة القطيعية، والجرأة على قول “لا” حين يكون الصمت موافقة.
،، الموازنة الدائمة: السعي نحو موازنة مستمرة بين شرعية القرار الجماعي (التي تحقق الاستقرار) وحكمة الرأي الفردي والمتخصص (التي قد تقترب أكثر من الصواب الموضوعي).

يظل الصراع بين حكمة الفرد اليقين ورأي الجماعة الخاطئ أحيانًا أحد أكثر التوترات إثارة للتفكير في الفلسفة والسياسة وعلم النفس، وهو دليل على تعقيد الحياة الاجتماعية وطبيعتها التي نادرًا ما تكون بالأبيض والأسود …
من صفحة المثقفون السوريون

أخر المقالات

منكم وإليكم