اللباس ثقافة فما حكاية (الكيمونو الياباني).إنه اللوحة الحافظة للهوية.وليس مجرد ثوب.- مليحة مسلماني.
الكيمونو الياباني ليس مجرد ثوب، بل لوحة حافظة للهوية
أرشيف القماش: الزيّ بين الهوية والمقاومة والتسليع
مليحة مسلماني
الكيمونو الياباني ليس مجرد ثوب، بل لوحة حافظة للهوية
منذ أن تفتّح وعي الإنسان، صار اللباس فعلًا ثقافيًا يرفعه من مستوى الغريزة إلى أفق المعنى. هنا، بدأ القماش، أو الجلود وأوراق النباتات، يتحول من مجرد غطاء إلى لغةٍ للروح. تشير الدراسات الأنثروبولوجية إلى أن الإنسان استخدم الأدوات العظمية في صناعة الملابس قبل نحو 120 ألف عام. في كهف كونتراباندييه في المغرب، تم العثور على أدوات عظمية وآثار قَطْع على عظام حيوانات مفترسة، تشير بوضوح إلى أنها كانت تُسلخ لاستخراج الفراء. تُعدّ هذه المكتشفات من أقدم الأدلّة الأثرية التي ترجّح استخدام الإنسان القديم لجلود الحيوانات كملابس. ومع اتساع الوعي بالجسد وبالعلاقة مع الآخر، تحوّل اللباس إلى حدّ أخلاقي وإلى “لغة” تُعرِّف الإنسان بنفسه وبجماعته.
هنا، تتقاطع القراءة العلمية مع القراءة الروحية التي يقدّمها النص القرآني: “يَا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسًا يُوَارِي سَوْآتِكُمْ وَرِيشًا”، في إشارة إلى أن ستر الجسد هو أيضًا يقظة روحية وارتقاء في معنى الإنسان ذاته، وانتقال من مجرد “وقاية” إلى “قيمة أخلاقية وجمالية ورمزية”؛ إذ يعكس هذا الامتداد الأول للزيّ في الخطاب الإلهي وظيفةً مزدوجة: ستر الجسد (الجانب البدني) وزينة/ لغة رمزية (الجانب الجمالي ــ الثقافي). ثمّ يأتي “لباس التقوى” كدعوة لتجاوز المادّي نحو الجوهر الأخلاقي والروحي.
من هذه المنطلقات التاريخية والدينية، يمكن أن نفهم أن أول ممارسات ارتداء الإنسان للزيّ لم تكن عشوائية، بل هي تعبيرٌ عن حاجة عميقة: الأمن، الوقاية، حَجْب العُريّ، الوعي بالجسد، والانتماء إلى الإنسان الآخر. بتراكم الزمن، تحوّل الزيّ من مجرد قماش إلى أرشيف حيّ؛ رمز يُقرأ، هوية تُوَرَّث، وذاكرة تُلبَس.بارت والزيّ: النصّ الذي نلبسه
في قلب تحليل رولان بارت للموضة، يتحوّل الزيّ من كونه مجرد غطاء أو زينة إلى “نظام علاماتي” متكامل، يعمل كلغة بصرية لها قواعدها الخفيّة. فكل تفصيلة، من عَرْض ربطة العنق إلى خشونة القماش، هي “دالّ” يبحث عن “مدلول” ضمن شيفرة ثقافية مشتركة. غير أن بارت يكشف عن مستوى أعمق: فالموضة لا تكتفي بتعيين معانٍ ثابتة لهذه العلامات، بل إن قوتها الأسطورية تكمن في “عملية إنتاج الدلالة” نفسها، في قدرتها على خلق عالم من الأهمية والأناقة من لا شيء تقريبًا، من مجرد شريط رفيع أو تعديل طفيف في الخطوط. من خلال خطاب المجلات التي تصف الملابس، تخلق الموضة “واقعًا” طبيعيًا تبدو فيه أعرافها المحضة قدَرًا محتومًا (“فساتين هذا الصيف ستكون من الحرير”).
يصبح الزيّ في النهاية آلة دلالية لا تتوقف. وليست أهميته في “ما يعنيه” بشكل ثابت، بل في كيفية عمله المستمر على توليد المعنى وإفراغه في الوقت ذاته. إنه يعلّمنا أن الهوية التي نعبّر عنها من خلال لباسنا ليست جوهرًا ثابتًا، بل هي حوار ديناميكي مع نسقٍ من العلامات ينتجها الخطاب الثقافي ويستهلكها. وفي عصر الصورة والتصوير الفوتوغرافي، تتحول الملابس إلى “صورة/ نص”: الملابس الملتقطة تُقرأ قبل أن تُرى، وتصبح وسيلة عرْض للذات أمام الجمهور. بهذا المعنى، كل شخص يلبس هو يوقّع على رسالة: “هكذا أريد أن يُقرأ وجودي”.
قفطان جزائري
الزيّ كأرشيف شخصي وجماعي
عندما نخزّن ثوبًا قديمًا، عباءة الأمّ، قفطان الجدة، أو بدلة الأب، لا نخزّن قماشًا فقط، بل لحظة، زمنًا، ووجودًا. تمارس الملابس دور “حامل الذاكرة”: موروث عائلي أو جماعي، مرآة لحقبة زمنية، أو تعبير عن انتماء، أو حنين.
على الصعيد الجماعي، تصبح الملابس أحد أشكال التعبير عن الهوية، والأمثلة من مختلف البلدان والثقافات كثيرة. مثال بعيد لكنه ملهم: الكيمونو الياباني، إنه ليس مجرد ثوب، بل هو لوحة تاريخية وحافظة للهوية. كل خيط، كل نقش، وكل لون فيه له معنى دقيق: يشير إلى العمر، أو الحالة الاجتماعية، أو الموسم، أو المناسبة. على مر القرون، تغيّرت أشكال الكيمونو وتطوّرت تقنيات زخرفته، ثم بدأت بعض الأساليب الغربية تدخل عليه، لكنه بقي رمزًا حيًا للثقافة اليابانية. اليوم، يُرتدى الكيمونو في المناسبات الرسمية مثل الأعراس، لكنه يظل أيضًا حاملًا للذاكرة العائلية، إذ كثيرًا ما تُحفظ قطع الكيمونو القديمة في البيوت وتنتقل من جيل إلى جيل، حاملةً قصص الأجيال وتاريخ المكان والزمان.
في الجزائر، تعكس الأزياء التقليدية هويةً حيّة متجددة، حيث يلتقي التراث مع الحداثة في ابتكارات المصمّمين المحليين مثل: القفطان، البلوزة الوهرانية، والكاراكو، فهُم يمزجون التطريز التقليدي مع القصّات العصرية، ويجعلون التراث الثقافي حاضرًا ومعبّرًا عن الأجيال الشابة. ولقد تعرّض هذا التراث لمحاولات الطمس والاستغلال من قبل الاستعمار الفرنسي؛ فمع غزو فرنسا للجزائر، بدأ المستعمِر الفرنسي باستخدام البرنوس التقليدي، الذي كان رمزًا للمكانة الاجتماعية والهوية الوطنية، ووظّفه كمصدر “إلهام” للأزياء الفرنسية، مع تعديل مظهره ليناسب الذوق الأوروبي، ما يمثل أحد سياسات الاستيلاء الثقافي، عبر محاولة اقتطاع الرموز الثقافية وإعادة تقديمها خارج سياقها الأصلي. كان اعتماد الملابس الجزائرية يتناسب مع تقليد فرنسي طويل في الزي الاستشراقي، في سياق الاستشراق الفرنسي الأوسع. يرى الباحثون أن ما يكمن وراء هذا الإعجاب الفرنسي بالأزياء الجزائرية هو استعلاءٌ متأصّل وإيمانٌ راسخ بالتفوق الفرنسي.
تتشابه الحالة في الجزائر مع فلسطين إلى حد كبير؛ فقد استخدم الفلسطينيون، والنساء بخاصة، الأزياء التقليدية المطرّزة كمساحة للمقاومة الثقافية وللحفاظ على الهوية والتراث، وذلك في مواجهة محاولات الاحتلال الإسرائيلي الاستيلاء على التراث أو تسويقه بعيدًا عن قيمته الرمزية والوطنية. في كلتا الحالتين، تصبح الملابس التقليدية أكثر من مجرد أقمشة وزخارف، فهي وسيلة للحفاظ على الذاكرة الجماعية، للتعبير عن الهوية، وللمقاومة الثقافية في مواجهة سياسات الاستلاب الاستعماري والطمس الثقافي والهوياتي.
الكوفية (Getty) والتطريز الفلسطيني
الزيّ بين التضامن والمتاجرة: الكوفية والتطريز الفلسطيني نموذجًا
في العقود الأخيرة، تحوّل الزيّ الفلسطيني المطرّز، بالإضافة إلى الكوفيّة، من رموز محليّة دالّة على العلاقة بالأرض/ الوطن إلى لغة عالمية للتضامن. صار الثوب المطرّز تعبيرًا عن انتماء للقضية الفلسطينية، والكوفية علامة مقاومة مرئيّة. لكن هذا الامتداد العالمي لم يأتِ بلا ثمن: فكل رمز حين يغادر بيئته/ حاضنته الأولى، يدخل منطقة رمادية بين الذاكرة والسلعة.
على جانبٍ، يرفع الناس الكوفية تضامنًا، يلبسونها كصوت صامت لفلسطين؛ وعلى الجانب الآخر، دخلت في دائرة السوق: تُنتَج في مصانع سريعة، بأيدٍ وماكينات لا تعرف الحكاية الفلسطينية، وتُباع بوصفها “موضة سياسية”. وباسم “التضامن”، يُعاد تدوير رمز مقاومة ليصبح “منتَجًا”، يُستهلَك ويُستعمَر معنويًا، كما تُستعمَر الأرض والهوية.
ينطبق الأمر أيضًا على التطريز الفلسطيني: ما كان أرشيفًا بصريًا للقرى والجبال والبيوت ــ خيطًا يحفظ الجغرافيا ــ صار في بعض الأسواق مجرد “نمط شرقي” يُطبع على القماش بلا جودةٍ ولا روح. تتحول الزخارف من علامات هوية إلى زينة قابلة للبيع، وتُفصَل عن الفلسطينيين أنفسهم، وعن تاريخ القرى، وعن القهر الذي حملته هذه الخيوط يومًا على الأكتاف والصدور.
بهذا، يصبح الزيّ الفلسطيني مساحة مزدوجة: مساحة تضامن حقيقي يعيد للرمز حيويته، ومساحة استغلال تجاري يقتلع الرمز من جذوره ويعيده بضاعة مستوردة. في هذه المسافة المتوترة، يحضر السؤال: هل نرتدي الكوفية لنكون جزءًا من الذاكرة والقضية؟ أم نلبسها بوصفها “منتَجًا” يَخلَعُ عنها تاريخها؟ وما الذي يبقى من الرمز حين يُباع أكثر مما يُقرأ ويُفهم؟الدين والزيّ: الجسد كوعيٍ مقدّس
لطالما اعتبر الدين الجسدَ كمظهرٍ لروحٍ، ومعنى، وجوهر، والزيّ ما هو إلا انعكاس لهذا الجوهر. في القرآن، يُنظَر إلى الزيّ كنعمة وفائدة، وأيضًا كإشارة أخلاقية: “لباس التقوى” هو الأفضل من لباس الريش/ الزينة. وفي أشكال الرهبنة، والزهد، وألبسة العبادة، يصبح الزيّ إعلانًا عن تفوّق الروح على الجسد، وتعبيرًا عن التواضع، أو عن الانتماء إلى الجماعة الدينية/ الروحية.
يحتلّ اللباس في التجربة الدينية موقعًا يتجاوز وظيفته المادّية ليصبح امتدادًا للجسد الموجَّه نحو المعنى. فالأديان، على اختلافها، لم تتعامل مع الثياب كغطاء وحسب، بل كـ “علامة رمزية” تنظّم علاقة الإنسان بالمقدّس وبذاته وبالعالم. فالملابس الدينية، من العمائم، والزيّ الكهنوتي، والكيباه، وصولًا إلى الحجاب، تعمل كجسر بين ما هو أرضي وما هو علوي، وكوسيط يضبط حضور الإنسان في فضاء يرى نفسه فيه “مرئيًا” أمام قوة أعلى.
“في عصر الصورة والتصوير الفوتوغرافي، تتحول الملابس إلى “صورة/ نص”: الملابس الملتقطة تُقرأ قبل أن تُرى، وتصبح وسيلة عرْض للذات أمام الجمهور”
من منظور تأمّلي، يمكن القول إن الأديان استخدمت اللباس لتأطير الجسد وتذكير الإنسان بحدوده، وكأنّ الثوب يصبح ذاكرة معنوية تُعيد الفرد إلى مركزه الأخلاقي. فقِيَم التواضع، والنقاء، والانضباط، التي تتكرر في معظم التقاليد الروحية، تُترجَم غالبًا إلى قواعد في اللباس تجعل الجسد “منسجمًا” مع السلوك. هنا لا يصبح الزيّ دينيًا إلا بقدر ما يعبّر عن نيّة داخلية: رغبة الإنسان بأن يرى نفسه في مرآة القِيَم التي يؤمن بها.
وفي الإسلام، يظهر هذا بوضوح في مفهوم الستر الذي لا يُفهم بوصفه حَجْبًا، بل كتنظيم للعلاقة بين الداخل والخارج، بين الروح والجسد. فالحجاب والجلباب والزيّ المحتشم ليست مجرد أنماط موروثة، بل تعبير عن تصوّر معيّن للجسد: أنه موضع كرامة، وأن انضباطه جزء من تهذيب النفس. لكن ما يميّز الإسلام هو مرونته التاريخية التي سمحت بتعدّد أشكال اللباس عبر الحضارات الإسلامية، من بلدان المشرق والمغرب العربية، إلى تركيا، إلى الهند، بحيث ظلّ المبدأ ثابتًا (العفّة والستر) بينما اختلفت الجماليات والأزياء تبعًا للثقافات والأذواق.
وبهذا المعنى، يصبح اللباس الديني ظاهرةً كونية تمسك بحدّين متقابلين: الرغبة في الانتماء إلى جماعة دينية، والرغبة في التعبير عن الفردية والتميّز الجماعي، أو الثقافي، أو العرقي، أو الفردي. إنه مساحة تتردد بين القِيَم والعصر، وبين الثابت والمتغيّر. فالثوب هنا ليس “واجبًا دينيًا مفروضًا” فحسب، بل هو أيضًا خيار وجوديّ يجعل الإنسان يعيد التفكير في موقعه داخل العالم: هل يظهر كما يراه الناس أم كما يراه الله؟ وهكذا، يكشف الزيّ الديني، سواء في الإسلام أو غيره، عن طموح الإنسان لأن يتحوّل جسده إلى معنى، وأن يجعل من الثياب لغة روحية تُترجِم ما يعتنقه القلب وما يسعى إليه العقل.
رداء كنسي مسيحي
الطبقة والمجتمع: كيف تكوّن الثياب الفوارق؟
منذ القرن التاسع عشر، بدت البَدْلة في الغرب كتعبير عن الحداثة، البرجوازية، الانضباط، والمهنية؛ “زي رجل الأعمال/ المدني” الذي لا ينتمي إلى الطبقة الأرستقراطية القديمة، ولا إلى العمل اليدوي. فمن خلال الزيّ، يكتسب الأفراد هوية اجتماعية ضمن بنية اقتصادية وسياسية. الزيّ هو لغة رمزية تنسج البنية الاجتماعية وتحدّد مكان الفرد داخل شبكة العلاقات والقِيَم. من خلال ثوب معيّن، يُعلن الفرد عن انتمائه الطبقي ــ من نبلاء إلى برجوازية أو طبقات عاملة، ويُشير إلى موقعه في الهيكل الاجتماعي. كما يعكس اللباس الدور المهني أو الوظيفي، فزيّ الجنود يفرض الانضباط والسلطة، ولباس رجال الدين يعبّر عن القداسة والامتثال الروحي، في حين يحدّد زي المدرّسين والموظفين الرسميين وظائفهم ومسؤولياتهم.
يتجاوز اللباس بُعْدَ الانتماء الطبقي والمهنة ليصبح مؤشرًا على الوضع الاجتماعي والسياقات الطقسية؛ فالملابس تختلف بين عرس وحداد أو زيارة رسمية وسوق شعبية، فتتحوّل إلى أداةِ تنظيمٍ اجتماعي، ورمزٍ ثقافي يربط الفرد بالمجتمع، ويقيس مدى احترامه للقيم المتفق عليها. بهذا المعنى، يمكن القول إن الثوب ليس مجرد غطاء جسدي، بل أداة استقراء للهوية، السلطة، والتاريخ الشخصي والجماعي، حيث يُقرأ المجتمع كله في تفاصيل ألوان أزيائه، وأنماطها، وأشكالها.
العصر الرقمي والموضة السريعة: تهديد للمعنى أم إعادة تشكيل للهوية؟
اليوم، حيث الصورة السريعة تبوح أكثر من الخطاب الطويل، يصبح الزيّ عرْضًا بصريًا أكثر من كونه لباسًا للجسد. منصات مثل إنستغرام، تيك توك، وفيسبوك تخلط بين الموضة، الهوية، والتسليع. الفرد لا يلبس ليعيش أو ليعمل أو لتتمايز هويته الجماعية؛ بل ليُرى، ليُحكم عليه، وليُشارك صورته على الإنترنت. تتحول الملابس إلى أداءٍ للذات أمام جمهور مفتوح، وليس انعكاسًا لهوية ثابتة. “الموضة السريعة” تفرغ الملابس من معناها التاريخي أو الاجتماعي، وتحوّلها إلى سلعة تُستهلك وتُلقى، بلا ارتباط بالذاكرة أو الهوية. في المقابل، ترفض حركات إحياء التراث والخصوصيات الثقافية، في بلدان مختلفة، هذه السرعة والتسليع للثقافة والأزياء، وتؤكد أن الزي التقليدي يعيد ربط الإنسان بجذوره، بذاكرته، وبقيَمه العميقة.
ومع ذلك، الزيّ ليس دائمًا طاقة جماعية أو رمز اجتماعي، بل قد يكون أيضًا تعبيرًا فرديًا عن الذات، عن الموقف، وعن البحث عن “الذات”داخل هذا العالم الواسع. من هنا يجنح البعض إلى اختيار ملابس بعيدة عن التوقعات الاجتماعية: لباس مغاير، أو لباس يتجاوز المألوف أو الطبقة أو الدين. وفي المجتمعات التي تعاني من ضيق البدائل (اقتصاديًا أو اجتماعيًا)، يصبح الزيّ وسيلة لابتكار الذات، أو للاختباء فيها. بهذا، يتحول القماش إلى “إرادة”: إرادة حرية، إرادة تعبير، وإرادة إعادة تشكيل الهوية خارج القوالب.في دوّامة الرأسمالية والعولمة: بين الاستهلاك والمقاومة
إنّ التحوّل نحو الصورة والسُرعة لم يأتِ من فراغ؛ إنه الابن الشرعي للنظام الرأسمالي العالمي في مرحلته الاستهلاكية المتطرّفة. “الموضة السريعة” ليست مجرد تغيير في الإيقاع، بل هي فلسفة إنتاجية تقوم على استنزاف ثلاثي: استنزاف البيئة (أطنان النفايات النسيجية)، استنزاف الإنسان (عمالة رخيصة في الدول النامية والفقيرة، ظروف عمل أشبه بالعبودية الحديثة)، واستنزاف المعنى (تحويل الثوب من حامل للذاكرة إلى سلعة مؤقّتة تُقاس قيمتها بعدد مرات الظهور على “الإنستغرام”). هنا يتبدّى شكل من أشكال الانفصال بين الإنسان وصنعته، على نحو يقارب ما تناوله ماركس في مفهوم الاغتراب: ينفصل المنتِج (العامل) عن مُنتَجه (الثوب) الذي يحمل في ثناياه عِرْقه وحكايته، ليباع في أسواق بعيدة كعلامة على “الأناقة” و”الحداثة”. نحن أمام تناقض صارخ: ثوب يُصنع في ظلام ورش بنغلاديش، ليُعرض في أضواء متاجر باريس، ثم يُلقى في مكبّات غانا، إنها رحلة تحكي قصة العولمة بمرارتها.
العولمة هنا لا تكتفي بتسويق النمط الواحد، بل تعمل على “تطويع” الخصوصيات وتذويبها. تَظهر الأزياء “الإثنية” مُجرّدة من سياقها، مُسوَّقة كـ “موضة” عالمية تلبسها نجمات هوليوود في حفلات الأوسكار، بينما تُهمَّش المجتمعات الأصلية التي أبدعتها. تتحول الرموز المقدسة أو ذات الدلالات العميقة إلى مجرد “زخارف” على قميص يُباع في مركز تجاري. لكنّ هذه الهجمة تخلق ردة فعل مضادة: تَشبُّ حروب الهوية الصامتة، حيث يصبح التمسّك بالزي التقليدي في المناسبات العامة، أو إحياء الحِرَف النسيجية المحلية، فعلًا سياسيًا واقتصاديًا مقاومًا. إنه رفضٌ لأن نكون مجرد مستهلِكين سلبيين في سوق عالمية، وتأكيد على الحق في أن نروي قصتنا من خلال خيوطنا وألواننا الخاصة. هكذا، تتحول خزانة الملابس من مشهد شخصي إلى ساحة صغرى تعكس صراعًا كونيًا بين: قوى التنميط والتذويب الثقافيّ الجارفة، وإرادات التميّز والبقاء.القماش جسر بين الجسد والزمن
عندما ينظر الإنسان إلى خزانة ملابسه، لا يرى فقط أقمشة قديمة أو ألوانًا باهتة، بل يرى فصولًا من حياته: طفولة، شباب، عزّ، فقر، فرح، حزن، سياسة، تراث، سفر، انتماء، نزوح، ونسيج ثقافي عميق. الزيّ، في جوهره، ليس “ما نلبسه”، بل “من نكون حين نلبسه”. هو ليس غطاء للجسد فقط، بل ستر يقي الذاكرة والهوية. هو جسد ثانٍ، لغة بلا كلمات، ذاكرة بلا أوراق، جسر بين الفرد والمجتمع، بين الماضي والحاضر، بين الجسد والروح.
في عصر تبدُّل القِيَم، السرعة، والانتماءات المتشظّية، يصبح السؤال: هل ما زلنا نرتدي تاريخنا؟ أم تُسْلب منا حكاياتنا وتُبدّلنا السرعةُ والموضة والرقمنة إلى صور بلا جذور؟ الملابس ليست للستر أو الوقاية أو الزينة فحسب، بل هي شعر صامت يروي هوية الجسد، هي لوحة قِماشيّة تقول: “أنا هنا، أنا إنسان، لي جذور، لي تاريخ، لي كرامة”.